الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي فأخبره

          526- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أي: ابن سعيد قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بزاي فراء فتحتية فعين مهملة مصغراً، واسمه: كعب بن عمرو الأنصاري (عَنْ سُلَيْمَانَ) مصغراً بن طرفان التيمي.
          (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مل بتشديد اللام مع تثليث الميم (النَّهْدِيِّ) بفتح النون فسكون الهاء والدال المهملة أسلم على عهد رسول الله ولم يلقه لكنه أدى إليه الصدقات مات سنة خمس وتسعين عن مائة وثلاثين سنة وكان يصلي حتى يغشى عليه.
          وقال في ((التقريب)) مخضرم من كبار التابعين ثقة ثبت عابد عاش مائة وثلاثين سنة وقيل: أكثر.
          (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) عبد الله ☺ (أَنَّ رَجُلاً) هو على الأصح أبو اليسر بفتح التحتية والسين المهملة كعب بن عمر والأنصاري وقيل نبهان التمار وقيل عمرو بن غزية وقيل معتب وقيل أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري وقيل عباد وقيل معاذ بن جبل.
          واعترض الأخير بأن في الترمذي بل في مسلم أن معاذاً قال يا رسول هذا لهذا خاصة أو لنا عامة قال بل لكم عامة ذكر جميع ذلك الجلال البلقيني في (الإفهام).
          (أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ) أي: أنصارية قال في ((الفتح)) لم أقف على اسم المرأة (قُبْلَةً) بضم القاف وسكون الموحدة أي: من غير مجامعة بل دون الفاحشة.
          روى الترمذي بسنده إلى أبي اليسر أنه قال أتتني امرأة تبتاع تمر فقلت إن في البيت تمرٌ أطيب منه فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك ولا تخبر أحداً وتب فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت رسول الله صلعم فذكرت ذلك له فقال: (أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا) حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال وأطرق رسول الله صلعم حتى أوحي إليه {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} إلى قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قال أبو اليسر فأتيته فقرأها على رسول الله صلعم فقال أصحابه يا رسول الله ألهذا خاصة أم لنا عامة [قال] (بل للناس عامة).
          وقال الواحدي: وكان زوجها بعثه رسول الله صلعم في بعث وفيه فغمزتها وقبلتها وكانت أعجبتني.
          (فَأَتَى) أي ذلك الرجل (النَّبِيَّ صلعم) أي: نادما على ما فعل (فَأَخْبَرَهُ) أي: بما وقع منه (فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَقِمِ}) التلاوة {وَأَقِمِ} بالواو ({الصَّلاَةَ}) أي: المكتوبة ({طَرَفَيِ النَّهَارِ}) نصب على الظرفية لإضافته إلى الظرف وهما الغداة والعشية أي: صلاة الغداة وصلاة الفجر لأنها أقربها الصلوات من أول النهار وصلاة العشية العصر.
          وقيل / هي الظهر لأن ما بعد الزوال عشي.
          ({وَزُلَفاً}) أي: ساعات ({مِنَ اللَّيْلِ}) بضم الزاي وفتح اللام للجمهور لنصب على الظرفية، وقرأه أبو جعفر بضمها، وقرأه ابن محيصين: بضم الزاي وسكون اللام، وقرأه مجاهد: ▬زُلْفَى↨ كقربى، وهو في الجميع جمع: زُلْفة _بضم فسكون_ من أزلفه قربَّه فصلاة الزلفة المغرب والعشاء كما قاله الحسن.
          وقال ابن عباس: طرفا النهار، يعني: صلاة الصبح وصلاة المغرب.
          وقال مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشي، وقال الضحاك: الفجر والعصر، وقال مقاتل: صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة المغرب والعصر طرف.
          وقال الأخفش: الزلف صلاة الليل، وقال الزجاج: الصلاة القريبة من أول الليل.
          ففي ((المحكم)): زلف الليل ساعات من أوله، وقيل: ساعات الليل الأخيرة، وفي (جامع القزاز): الزلفة القريبة من الخير والشر.
          وقال في ((القاموس)): والزلفة الطائفة من الليل، والجمع كغرف وغرفات أو الزلف ساعات الليل الأخيرة من النهار وساعات النهار الآخذة من الليل، وقرئ: (وزُلُف)بضمتين، إما مفرد كحلم، وإما جمع زلفة كيسرة ويسر بضم سينهما.
          قال ابن الملقن: قال شيخنا قطب الدين: وقوله: {وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} مقتضاه الأمر بإقامة الصلاة في زلف منها؛ لأن أقل الجمع ثلاثة والمغرب والعشاء وقتان فيجب الحكم بوجوب الوتر، وتبعه شيخنا علاء الدين في ((شرحه)) وهي نزعة لا نسلم لهما انتهى.
          وقول العيني: فقال لا نسلم له لأن عدم التسليم بعد إقامة الدليل مكابرة.
          ({إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]) أي: يكفرنها، وقد اختلف في هذه الآية، فقيل: المراد بالحسنات الصلوات الخمس إذا اجتنبت الكبائر، الحديث الصحيح: (الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر).
          وفي ((الكشاف)) ما حاصله فيها وجهان:
          أحدهما: أن تكفير الصغائر بالطاعات، والثاني: أن الحسنات تصير سبباً في ترك السيئات لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء} [العنكبوت:45].
          وقيل: نزلت في أبي اليسر الأنصاري كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها إن في البيت أحسن من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم، فأتى رسول الله فأخبره بما فعل فقال (أنتظر أمر ربي) فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال صلعم: (اذهب فإنها كفارة لما عملت) وروي أن عمر قال هذا له خاصة أم للناس عامة فقال: (بل للناس عامة).
          وقال مجاهد: الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والمكفر بذلك الصغائر عند الجمهور بشرط اجتناب الكبائر لما مر من الحديث.
          وسيأتي بأبسط في باب الصلوات الخمس كفارات للخطايا.
          وقالت فرقة: إن لم تجتنب لم تحطها الطاعات وحطت الصغائر، لكن قال ابن الملقن بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها.
          وقال ابن عبد البر: قال بعض المنتسبين للعلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر تكفر الصلاة والطهارة.
          واستدل بظاهر هذا الحديث وبحديث الصنابحي: خرجت الخطايا فيه وغيره.
          وهذا جهل وموافقة للمرجئة وكيف يجوز أن تحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم:8] في آيات كثيرة، فلو كانت الصلاة والطهارة وأعمال البر مكفرة للبكائر لما احتاج إلى التوبة انتهى.
          وفي اشتراط التوبة من الصغائر للتكفير،نظر ورواية الترمذي السابقة فيها تتمة الآية، وهي: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] والإشارة بذلك كما قال البيضاوي إلى قوله: {فَاسْتَقِمْ} [هود:112] فما بعده وقيل إلى القرآن انتهى وفي اشتراطه التوبة من الصغائر للتكفير نظر.
          (فَقَالَ الرَّجُلُ) أي: المتقدم (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي) بهمزة الاستفهام وتقديم خبر (هَذَا) للاختصاص (قَالَ) أي: رسول الله (لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ) مبالغة في التأكيد سقط: (كلهم) للمستملي كما في ((الفتح)) و(العمدة).
          وقال القسطلاني: الذي في الفرع كأصله رقم علامة سقوطها لأبي ذرٍّ عن الكشميهني والحموي والأصيلي.
          ومطابقة الحديث / للترجمة: أن الحسنات في الآية بمعنى الصلوات فهي مكفرة، لكن ظاهر الآية يدل على أن فعل الخمس هو المكفر مع أن كل واحد منها مكفر كما تبين في سبب النزول من أن الرجل صلى العصر إلا أن تحمل الحسنات على الجنس فتأمل.
          وفي قوله ◙: (لجميع أمتي كلهم) على دليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فتدبر.