الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: مواقيت الصلاة وفضلها

          521- 522- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ): بلام مفتوحة بين ميمين، كذلك هو القعنبي، وهذا الحديث رجاله كلهم مدنيون، وهو أول ((الموطأ)) للإمام مالك (قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ): هو الإمام ابن أنس (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ): أي: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ): أي: ابن مروان الخليفة العادل من بني مروان، وكذا يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان لا غيرهما منهم المعبر عنهما بقوله: الأشج والناقص أعدلا بني مروان؛ أي: عادلاهم، والأشج: هو عمر ☺ لقب بذلك لشجة كانت بجبينه، والناقص: هو يزيد المذكور، لقب به؛ لأنه نقص أرزاق عن ابن شهاب حيث قال: أخر العصر شيئاً.
          ويدل له _كما قال الكرماني_ قول عروة: ولقد حدثتني عائشة الحديث، وما رواه الطبراني الآتي عن ابن شهاب.
          وظاهر السياق _كما قال ابن عبد البر_ أنه ما فعل ذلك إلا يوماً، لا أن ذلك عادته وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، كما يأتي التنبيه عليه قريباً في باب تضييع الصلاة عن وقتها، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب: أنه أخر الصلاة مرة _يعني: العصر_
          قال في ((الفتح)): وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة / بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل عمل المغيرة وغيره من الصحابة.
          وقال ابن عبد البر _كغيره_ المراد: أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس. انتهى.
          قال العيني: ويؤيده رواية الليث السابقة مع أن اللائق أنه لا يظن به إخراجها عن وقتها بالكلية لجلالته عن ذلك. انتهى.
          وأقول: هذا متعين في حق الصحابة ♥ لنزاهة قدرهم عن إخراجها عن وقتها بالكلية بخلاف غيرهم، فلا مانع من أن عمر ☺ أخرها حتى خرج وقتها بالكلية إن لم يكن الواقع بخلافه، لا سيما وقد كان حين إنكار عروة عليه أميراً على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك، والناس غالباً على دين ملوكهم، وقد كان ذلك عادة بني أمية، كما رواه الطبراني وغيره.
          وقد روى أيضاً الطبراني: أن ابن شهاب قال: دعا المؤذن لصلاة العصر، فأمسى عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها، وإن أجابوا عنه: بأنه محمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه حقيقة.
          ويؤيده أيضاً: ما ذكره في ((الفتح)) في باب تضييع الصلاة عن وقتها من قوله: وكان على طريقة أهل بيته حتى أخبره عروة بذلك. وإن أمكن حمل كلامه على الإخراج عن وقت الاستحباب كما صرح به هنا كغيره.
          وليس الغرض من هذا الكلام الغض من قدر ذلك الإمام، فمعاذ الله من التجرىء على ذلك الخباب فقد سلك بعد خلافته مسلك جده من جهة الأمهات عمر بن الخطاب ☻، ولعن الله باغضهما ومنتقصهما، وقد رجع عن ذلك التأخير بعد أن حدثه عروة بالحديث المذكور، واعتنى بضده غاية الاعتناء حتى جعل أيام خلافته ساعات ينقضين مع غروب الشمس، وصار يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.
          (فَدَخَلَ عَلَيْهِ): أي: على عمر ☺ (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) ☺ (فَأَخْبَرَهُ: أَنَّ المُغِيرَةَ ابْنَ شُعْبَةَ): الصحابي الجليل ☺ مر في أواخر كتاب الإيمان (أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً): هي العصر أيضاً كما رواه عبد الرزاق ولفظة: (يوماً) تدل على ندرة التأخير، وليس المراد أنه أخرج الصلاة عن وقتها بالكلية كما مر، ويرشد إليه التعبير بآخر دون أخرج.
          وجملة: (وَهْوَ بِالعِرَاقِ): حال من (المغيرة)، وقد كان حينئذٍ أميراً عليها من قبل معاوية ☺، والمراد بها: عراق العرب، وهو من عبادان إلى الموصل طولاً ومن القادسية إلى حلوان عرضاً.
          قال في ((القاموس)): سميت بها لتراسخ عراق النخل والشجر فيها، أو لأنه استكفى أرض العرب، أو سمي بعراق المزادة لجلدة تجعل على طرفي ملتقى الجلد إذا خرز في أسفلها؛ لأن العراق بين الريف والبر، أو لأنه على عراق دجلة والفرات _أي: شاطئها_ أو معرب إيران شهر، ومعناه: كثرة النخل والشجر، والعراقان: الكوفة والبصرة. انتهى.
          وفي ((الموطأ)) من رواية القعنبي وغيره: وهو بالكوفة، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي، فالتعبير بها أخص من التعبير بالعراق؛ لأنها من جملته.
          (فَدَخَلَ عَلَيْهِ): أي: على المغيرة بن شعبة ☺ (أَبُو مَسْعُودٍ): هو كنية عقبة بن عمرو البدري الصحابي (الأَنْصَارِيُّ): ☺، وتقدم أواخر كتاب الإيمان (فَقَالَ): أي: أبو مسعود للمغيرة (مَا هَذَا): استفهام توبيخي؛ أي: أي شيء هذا التأخير (يَا مُغِيرَةُ، أَلَيْسَ): قال البرماوي: كذا الرواية والأفصح: ألست.
          وقال في ((الفتح)) كالزركشي والعيني: كذا الرواية، وهو استعمال / صحيح، لكن الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: ألست، وفي مخاطبة الغائب: أليس. انتهى.
          وتعقبهم في ((المصابيح)): بأنه يوهم جواز استعمال هذا التركيب مع إرادة أن يكون ما دخلت عليه ضمير المخاطب، وليس كذلك، بل هما تركيبان مختلفان، وليس أحدهما بأفصح من الآخر؛ فإنه يستعمل كل منهما في مقام خاص، فإن أريد إدخال ليس على ضمير المخاطب تعين: ألست قد علمت، وإن أريد إدخالها على ضمير الشاذ مخبراً عنه بالجملة التي أسند فعلها إلى المخاطب، تعين: أليس. انتهى.
          وليتأمل معنى قولهم: مخاطبة الغائب؛ فإن الغائب لا يكون مخاطباً إلا أن يريدوا بذلك الإخبار عن ضمير الشأن الغائب بجملة مسند فعلها إلى المخاطب كما يشير إليه كلام ((المصابيح))، وقد يقال: مرادهم ما في ((المصابيح))، فلا تعقيب، فتدبر.
          (قَدْ عَلِمْتَ): رواه المصنف في ((المغازي)) كعبد الرزاق بلفظ: فقال: لقد علمت، وهي تدل صريحاً على علم المغيرة بذلك لعدم أداة الاستفهام، بخلاف ما هنا فإن ظاهره _كما قال عياض_ يدل لذلك، ويحتمل أن يكون على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة.
          (أَنَّ جِبْرِيلَ): ◙ (نَزَلَ): أي: صبيحة ليلة الإسراء التي فرض فيها الصلوات كما بينته رواية ابن إسحاق وعبد الرزاق بسندهما: لما أصبح النبي صلعم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل، نزل حين زاغت الشمس، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل وصلى رسول الله صلعم بالناس، الحديث.
          قال في ((الفتح)): وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق: أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل وبعدها ببيان النبي صلعم
          (فَصَلَّى): أي: جبريل الظهر؛ أي: صلاته، زاد أبو الوقت: <برسول الله>، وسقط: <فصلى> لابن عساكر، والفاء للتعقيب؛ لأن صلاة جبريل عقب نزوله حين زاغت الشمس وتحتمل السببية.
          هذا وفي الكلام أيضاً حذف معطوف يقدر في المواضع الخمسة بنحو: والناس؛ أي: وصلى الناس خلف رسول الله، كما يدل عليه ما سيأتي في رواية جابر التي سنذكرها قريباً _إن شاء الله تعالى_ فاعرفه.
          (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: الظهر بصلاة جبريل مقتدياً به متابعاً له في كل ركن لا أنه صلى بعد فراغ جبريل وإن كان ظاهر ما هنا ذلك.
          ولذا قال عياض: ظاهره: أن صلاته كانت بعد فراغ جبريل لكن المنصوص في غيره: أن جبريل أم النبي صلعم، فيحمل قوله: (فصلى): على أن جبريل كان كلما فعل جزءاً من الصلاة تابعه النبي صلعم ففعله. انتهى.
          فالفاء: للتعقيب، ويدل له ما رواه البخاري وغيره من طريق الليث: (نزل جبريل فأمَّني فصليت معه).
          جزم به النووي وقال كثيرون: الفاء بمعنى الواو، كما في قوله:
بين الدخول فحومل
          قيل: يلزم عليه أن يكون النبي صلعم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل على ما يقتضيه مطلق الجمع.
          وأقول: اللزوم لزوماً ممنوع فلا إيراد، وإن أجيب عنه: بأن جبريل مبين، فلا يمكن تقدم صلاة النبي عليه، وقيل: الفاء للسببية نحو: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15].
          وأقول: قال في ((المغني)): وتفيد الفاء العاطفة ثلاثة أمور: الترتيب والتعقيب والسببية، وهذا غالب في العاطفة جملة أو صفة نحو: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، ونحو: {لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ. فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:52-54] انتهى.
          فالتعقيب والسببية من مفادات الفاء العاطفة، وهي هنا كذلك، فما معنى جعلهم كل واحد منها قولاً مستقلاً؟ وقد يجاب: بأن السببية قد تنفك عن التعقيب، فتدبر. / (ثُمَّ صَلَّى): أي: جبريل العصر (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: العصر معه (ثُمَّ صَلَّى): أي: جبريل المغرب (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: المغرب (ثُمَّ صَلَّى): أي: جبريل العشاء (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: العشاء (ثُمَّ صَلَّى): أي: جبريل الصبح (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: الصبح معه بتكرير صلاتيهما خمس مرات، وعبر بالفاء في صلاة رسول الله؛ لأنها متعقبة لصلاة جبريل بالمعنى السابق وبـ(ثم) في صلاة جبريل لتراخيها عن سابقتها إلا الأولى؛ فإنها كانت عقب نزوله كما أشرنا إليه، فلذا أعطفها بالفاء أيضاً، ومفعولات الأفعال محذوفة للدلالة عليها، كما قدرناها، ويحتمل تنزيلها منزلة اللازم، فتأمل.
          قال ابن الملقن: ولم يذكر هنا أوقات الصلوات وإنما ذكر عددها؛ لأنه كان معلوماً عند المخاطب فأبهمه.
          وقال ابن رجب: وليس فيه ذكر بيان شيء من الأوقات.
          وأقول: سيأتي للمصنف بيان كل وقت صلاة على التعيين ابتداء وانتهاء، لكن من فعل النبي صلعم وبيانه دون جبريل وسنذكر رواية غير المصنف هناك _إن شاء الله_ ولنذكر هنا من بيان جبريل عليه الصلاة والسلام لها مفصلاً ما رواه النسائي عن جابر ☺ كما نقله ابن الأثير في (جامع الأصول) مبيناً فيه أول الوقت وآخره.
          ولفظه: أن جبريل أتى النبي صلعم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله صلعم خلفه والناس خلف رسول الله فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل ورسول الله صلعم خلفه والناس خلف رسول الله فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله صلعم خلفه والناس خلف رسول الله صلعم فصلى العشاء، ثم أتاه حين سطع الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله صلعم خلفه، والناس خلف رسول الله، فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلي شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب فنمنا، ثم قمنا ثم نمنا ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح، والنجوم بادية مشتبكة، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الغداة ثم قال: (ما بين هاتين الصلاتين وقت).
          وفي رواية قال: (جاء جبريل ◙ إلى النبي صلعم حين زالت الشمس فقال: (قم يا محمد فصل الظهر)، فصلاها حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان في الرجل مثله جاءه فقال: (قم يا محمد فصل العصر)، فصلاها، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه، فقال:(يا محمد قم فصل المغرب (، فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء، ثم مكث حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال:(قم فصل العشاء)، فقام، ثم جاءه مسطع الفجر في الصبح، فقال: (قم يا محمد فصل)، فقام فصلى الصبح، ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثليه، فقال: (قم يا محمد فصل الظهر)، ثم جاءه جبريل ◙ حين كان فيء الرجل مثليه، فقال:(قم يا محمد فصل العصر)، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتاً واحداً لم يزل عنه، فقال: (قم فصل)، فصلى المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال:(قم فصل العشاء)، ثم جاءه حين أسفر جداً، فقال:(قم فصل)، فقام فصلى الصبح فقال:(ما بين هذين وقت كله). انتهى.
          وأقول: في الحديث بروايتيه البيان بالقول / والفعل، وفيه أن جبريل لم يستمر عند النبي صلعم إلى دخول الوقت الثاني.
          وخرج ابن رجب الحديث بألفاظ مقاربة لحديث جابر المذكور من رواية ابن عباس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عمر وأنس قال: ولم يخرج شيء منها في ((الصحيح)).
          ثم قال: وحديث جابر خرجه أحمد والترمذي والنسائي وأن الترمذي حكى عن البخاري أنه قال: أصح شيء في المواقيت حديث جابر، انتهى.
          ثم قال: وقد دل القرآن في غير موضع على مواقيت الصلاة وجاءت السنة مفسرة لذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] فدلوك الشمس: وقت الظهر والعصر في الجملة، وغسق الليل: وقت للمغرب والعشاء، وقرآن الفجر: للفجر.
          ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود:114] وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17] الآيتين.
          (ثُمَّ قَالَ) أي: جبريل للنبي بعد أن صلى به الصلوات الخمس في أوقاتها، وظاهر حديث الباب أنه ما صلى به إلا في يوم بخلاف حديث النسائي السابق فإنه صريح في أنه صلى به في يومين.
          (بِهَذَا) متعلق بـ(أُمِرْتُ) وفي تقديم الشارة إلى الحصر بأداء الصلاة في هذه الأوقات لتعليمك فعلها فيها لا في غيرها من متقدم على الوقت أو متأخر عنه أو تبليغ ذلك لك و(أمرت) مبني للمفعول والتاء إما مضمومة لجبريل أي: أمرني الله، وإما مفتوحة وهي رواية أبي ذر على ما قال القسطلاني وقال تبعاً للفتح وهي المشهورة ومقتضاه أن الضم رواية الأكثر وإن كان الفتح أشهر.
          لكن عزى الزركشي الضم للأكثر وتبعه في ((المصابيح)) فتدبر أي: بهذا الأداء للصلوت في هذه الأوقات أمرك الله.
          قال ابن الملقن: قال ابن العربي: نزل جبريل إلى الشارع مأموراً مكلفاً بتعليمه لا بأصل الصلاة؛ لأن الملائكة وإن كانوا مكلفين فبغير شر أيضاً ولكن الله كلف جبريل الإبلاغ والبيان كيف ما احتيج إليه قولاً وفعلاً.
          وأقوى الروايتين فتح التاء؛ أي: الذي أمرت بين الصلاة البارحة مجملاً هذا تفسيره اليوم مفصلاً، وبهذا يتبين بطلان من يقول في أن صلاة جبريل به جواز صلاة المعلم بالمتعلم والمفترض خلف المتنفل، انتهى.
          وأقول: فليس فيه اقتداء المفترض وهو النبي بالمتنفل وهو جبريل ليكون حجة على من يمنع ذلك بل فيه اقتداء مفترض بمفترض، وهذا لابن العربي وعياض وهو أولى من جواب عياض الآخر باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة واجبة على النبي وإن كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة لاحتمال أن الوجوب عليه كان معلقاً بالبيان، انتهى.
          فمن نقل عن الشراح عن ابن العربي أن فيه جواز صلاة المفترض خلف المتنفل فليس على تحقيق لما علمت من عبارة ابن العربي، فتأمل.
          وفيه دليل على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره.
          وأجيب عنه بما أجيب به عن صلاة أبي بكر خلف النبي وصلاة الناس خلفه من أنه كان مبلغاً فلذلك هنا النبي مبلغ وجبريل الإمام للنبي وأصحابه.
          وأقول: فيه دليل لما نقله ابن المنير من أنه قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض خلف مفترض بفرض آخر، انتهى.
          وأما تسليم الفتح له في المرادة مثلاً خلفاً لمقضية لا في صورة الظهر خلف العصر مثلاً، انتهى فغير ظاهر.
          (فَقَالَ عُمَرُ) أي: ابن عبد العزيز (لِعُرْوَةَ) أي: ابن الزبير ♥ تقدمت ترجمتها.
          (اعْلَمْ) أمر أي: اعرف (مَا تُحَدِّثُ به) سقط <به> لغير أبي ذرٍّ، وتحدث مضارع التفعيل أو التفعل بحذف إحدى التاءين تخفيفاً.
          (أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ) الهمزة للاستفهام والواو / مفتوحة للعطف على مقدر والهمزة مقدمة من تأخير، و(إن) بكسر الهمزة على الاستئناف، وهو الأظهر وأوجبه بعضهم، ورد بأنه روي بفتحها على تقدير: أو علمت أو حدثت.
          (هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلعم وَقْتَ الصَّلاَةِ) بإفراد الوقت للأكثر مراداً به الجنس، ورواه المستملي: <وقوت> بالجمع وابن عساكر: <مواقيت> بالجمع أيضاً، قال القرطبي: ظاهر قول عمر الإنكار على عروة بأنه لم يكن عنده خبر من إمامة جبريل لأنه لم يبلغه أو بلغه فنسيه، والأولى عندي أن حجة عروة عليه أنها هو فيما رواه عن عائشة.
          (وَذَكَرَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ): توطئة له وتعليماً بأن الأوقات إنما ثبت أصلها بإيقاف جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام (قَالَ عُرْوَةُ كَذَلِكَ) ولأبي ذرٍّ: <وكذلك> (كَانَ بَشِيرُ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة (ابْنُ أَبِي مَسْعُودٍ) تابعي جليل وصحابي رؤية لا رواية أنصاري ثقة (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ) أي: أبي مسعود المذكور.
          قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، ولم يقل عروة: حدثني بشير، لكن العبرة عند الجمهور بثبوت اللقاء لا بالصيغ.
          وقال في ((الفتح)) سياق ابن شهاب ليس فيه تصريح بسماعه له من عروة مع أن ابن شهاب جرب عليه التدليس لكن وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز فذكره، وفي رواية شعيب عن الزهري: سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز.
          وقال الكرماني: الحديث بهذا الطريق ليس بمتصل الإسناد إذ لم يقل أبو مسعود شاهدت رسول الله ولا قال قال رسول الله صلعم.
          وأجاب في ((الفتح)) بأن هذا لا يسمى منقطعاً اصطلاحاً، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلعم أو بلغه عنه بواسطة صحابي آخر على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال ولفظه: فقال عروة سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله يقول... فذكر الحديث.
          واعترضه العيني فقال: لا نسلم أن رواية الليث تزيل الإشكال في الرواية التي هاهنا لأنها غير متصلة الإسناد بالنظر إلى الظاهر، وأجاب في ((الانتقاض)) بأنه لم يقل أنها متصلة لفظاً بل هي متصلة اصطلاحاً بدليل رواية الليث، فالذي لا يسلم هذا الكلام لا يدري الاصطلاح، انتهى.
          (قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ ♦ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا) أي: بيتها، والحجرة _بضم الحاء وسكون الجيم_ قال ابنُ الملقن: هي الدار وكل ما أحاط به فهو حُجرة من حجرت؛ أي: أمنعت سميت بذلك لأنها تمنع من دخلها أن يوصل إليه ومن حكى أن يرى ويقال لحائط الحجرة: الحجارة، انتهى.
          (قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) أي: تعلو الشمس أو المراد: فيها، فكنَّت بالشمس عن الفيء لاستلزامه له والأول أولى لأن ضمير يظهر عائد للشمس ولم يتقدم للفيء ذكر صريحاً لكن يدل عليه ما في بعض الروايات: (لم يظهر الفيء).
          وقال ابنُ التين وغيره: ظهر الرجل فوق السطح: علاه، وقيل له ذلك لأنه إذ علا فوقه فقد ظهر شخصه لمن تأمل، وقيل: معناه قبل أن يخرج الظل من قاعدة حجرتها، وكل شيء خرج فقد ظهر.
          تنبيهاً: قال عروة: ولقد حدثتني... إلخ موصول؛ لأنه مقول ابن شهاب الواقع في آخر السند أولاً وجوز الكرماني أيضاً أن يكون تعليقاً من البخاري وردَّه العيني بأنه كيف يكون تعليقاً، وقد ذكره مسنداً عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة كما يأتي في باب وقت العصر فحينئذٍ يكون مقول ابن شهاب ومثله في ((الفتح)) غير أنه زاد على بعده مغاير للواقع.
          وأقول: جعله تعليقاً هنا من البخاري / لا سيما على سبيل الاحتمال لا ينافي أنه موصول في باب آخر وأنه في الواقع من كلام ابن شهاب، فتدبر هذا.
          وقد استدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع؛ لأن عروة لما أخبر عمر أن جبريل إمام للنبي صلعم وقت الصلاة لم يقنع بذلك إذا لم يسنده فإنما قال: اعلم ما تحدث به جاء بالحجة القاطعة فقال كذلك كان يشير.
          وفي رواية: (سمعت) وفي أخرى: (حدثني بشير) ثم انتقل فقال: (ولقد حدثتني عائشة) قال الأبي: وكل هذا حجة على عمر وأن الحكم التعجيل لأن هذا مع ضيق الحجرة وقصر النبأ إنما سيأتي في وقت العصر.
          وقال في ((الفتح)) وبعد كلام وضح أن في رواية مالك ومن تابعه اختصاراً ولذلك جزم ابن عبد البر وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة.
          وقال ابن بطال أيضاً: في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أم بالنبي في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة لأنه لو كان صحيحاً لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجاً بصلاة جبريل مع أن جبريل صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت وقال: الوقت ما بين هذين.
          وأُجيب: باحتمال أن صلاة عمر كانت بعد وقت الاختيار وهو مصير ظل الشيء مثليه فيتجه إنكار عروة ولا يلزم ضعف الحديث أو يكون إنكار عروة لمخالفة ما واظب عليه النبي من الصلاة أول الوقت ورأى أن الصلاة بعد ذلك لبيان الجواز فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضاً.
          وقد روى سعيد بن منصور مرسلاً: إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله، ورواه أيضاً من قول ابن عمر.
          وقال النووي: أما تأخيرها يعني عمر والمغيرة فلأنهما كانا يريان جواز التأخير ما لم يخرج الوقت كما هو مذهب الجمهور أو لكونهما لم يبلغهما الحديث، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود والظاهر أنه رجع إليه، وأما ما زاد عبد الرزاق في هذه القصة: فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا.
          وما رواه أبو الشيخ فيها عن الزهري أنه قال: ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات وأنه جعل ساعات ينقضين مع غروب الشمس فما أخرها حتى مات.
          فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كبير احتياط إلا بعد أن حدثه عروة بالحديث، انتهى.
          وقال العيني: في قوله: ما واظب عليه النبي صلعم من الصلاة أول الوقت، نظر لا يخفى، انتهى.
          وأقول: إن ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة ما في غير أول الوقت ما عدا اليوم الثاني مع جبريل فلعله نادر لا يخرجه عن المواظبة، فتدبر، فلا يرد نظره، فافهم.
          ومن فوائد هذا الحديث كما قاله ابن الملقن في ((التوضيح)): المبادرة بالصلاة في الوقت الفاضل، ومنها وقول العلماء على الأمر إذا كانوا أئمة عدل، ومنها إنكار العلماء عليهم ما يخالف السنة ومنها جواز مراجعة العالم لطلب البيان، ومنها الرجوع عند التنازع إلى السنة فإنها الحجة والمقنع.
          ومنها أن الحجة في المسند دون المقطوع كما سلف ومنها قصر البنيان والاقتصاد فيه من حيث أن جدار الحجرة كان قصيراً.
          قال الحسن: كنت أدخل بيوت النبي وأنا محتلم وأنا أسقفها بيدي في خلافة عثمان ☺، انتهى.
          وقال العيني: وفيه دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها وأنها لا تجزئ قبل وقتها وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيء روي عن أبي موسى الأشعري، وعن بعض التابعين: أجمع العلماء على خلافه ولا وجه كذكره هنا لأنه لم يصح / عنهم وصح عن أبي موسى ☺ خلافه مما وافق الجماعة فصار اتفاقاً صحيحاً ومثله في ابن رجب، ثم قال: ليس هذا الاختلاف في جواز تقديم الصلاة على وقتها عمداً إنما الاختلاف فيمن اجتهد وصلى ثم تبينت صلاته قبل الوقت وقد مضى الوقت فهذا في وجوب الإعادة فيه قولان للشافعي والاختلاف المروي عن السلف يرجع إلى هذين القولين، وقد حكى رواية عن أحمد أنه لا يلزمه القضاء، وعن مالك إذا صلى العشاء في السفر قبل غروب الشفق جاهلاً أو ناسياً يعيد ما كان في الوقت لا بعده، انتهى.
          والحديث أخرجه المصنف أيضاً في بدء الخلق وفي المغازي ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، والله أعلم.