الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة

          525- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) أي ابن مسرهد قال (حَدَّثَنَا يَحْيَى) أي: ابن سعيد القطان (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (شَقِيقٌ) هو أبو وائل بن سلمة الأسدي (قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ) أي: ابن اليمان وللمستملي: <حدثني حذيفة>.
          (قَالَ كُنَّا جُلُوساً) أي: جالسين (عِنْدَ عُمَرَ) ابن الخطاب ☺ (فَقَالَ) أي: عمر (أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ) ولأبي ذر والأصيلي: <النبي> (صلعم فِي الْفِتْنَةِ) أي المخصوصة ففيه دليل على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص والفتنة في الأصل الابتلاء والاختيار ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء وتكون في الخير والشر لقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [نبيا:35].
          قال سيبويه: فتنة جعل فيه فتنة وأفتنه أوصل الفتنة إليه، وتطلق الفتنة على الكفر والغلو في التأويل البعيد وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والظلال والإثم والإزالة عما كان عليه كقوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [الأسراء:73] وعلى التحويل من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب إليه.
          (قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ) أي: قال حذيفة أنا أحفظ الذي قاله فالكاف زائدة للتأكيد، وقيل: بمعنى على أو اللام وقيل: الكاف على أصلها بمعنى مثل ولا يرد عليه أنه يحفظه قول رسول الله بعينه لاحتمال أنه نقله بالمعنى.
          فالتشبيه من بعض الوجوه على أن البرماوي قال فيه إشارة إلى أنه قاله بلفظ إن تكلم الحاكي ليس تكلم المحكي عنه بل مثله فلا يرد ما قاله العيني وجملة احفظ المقدرة خبر أنَا وأنا تأكيداً وفاعل له والجملة مقول القول.
          (قَالَ عمر) أي: لحذيفة (إِنَّكَ عَلَيْهِ) أي على النبي أو على قوله ويؤيده (أَوْ عَلَيْهَا) أي: على مقالته وقيل على الرواية.
          (لَجَرِيءٌ) بهمزة آخره من الجراءة وهي الجسارة، والشك من حذيفة أو غيره وغرض عمر الإنكار على حذيفة قاله القسطلاني تبعاً للمصابيح، والظاهر أنه أراد أن له مزيد معرفة فيها لكمال اعتنائه بها.
          (قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ) برفع فتنة مبتدأ (فِي أَهْلِهِ) متعلق بفتنة أي: بأن يأتي من أجلهم ما لا يحل له من القول أو الفعل مما لم تبلغ كبيرة.
          قاله ابن بطال والظاهر أن تقييده بما ذكره بقوله تكفرها الصلاة... إلخ فإن المكفر بهذه الصغائر للخبر الصحيح الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر.
          وقال المهلب: يريد ما يعرض له معهن من شر أو حزن أو شبهه.
          (وَمَالِهِ) بأن يأخذه من غير حلة ويصرفه في غير مصرفه الشرعي (وَوَلَدِهِ) بفتحتين بفرط محبته وشغله به عن كثير من الخير ففي الحديث أولد منجلة فجبنة مجهلة أو لتوغله في الاكتساب لأجله من غير توقي المحرمات.
          (وَجَارِهِ) بأن يحسده إن كان في سعة ويكرهه إن كان في ضيق قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان:20].
          وجملة: (تُكَفِّرُهَا) بالفوقية والتحتية (الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ / وَالأَمْرُ) أي: بالمعروف (وَالنَّهْيُ) خبر فتنة ويجوز جعلها مستأنفة أو خبراً لمحذوف إن جعلنا فتنة مرفوعة خبراً لمحذوف أي: هي مثلاً أو منصوبة بتقدير أتريد وخص هذه الأقوال الخمسة لأن الحقوق إما في الأبدان أو الأموال أو الأقوال فمن الأول الصلاة والصوم وهما أعلاها ومن الثاني أعلاه الصدقة ومن الأقوال أعلاها وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاله الكرماني.
          ولهذا الكلام محامل أن تكون كل واحدة من الصلاة وأخواتها تكفرة للمذكورات كلها ولكل واحد منها وأن يكون المجموع منها مكفراً لها وكذا الباقي وأن يكون من باب اللف والنشر المرتب.
          وقال العارف بن أبي جمرة ويؤخذ من مفهوم الحديث إشارة لطيفة كأنه يحذر عن هذه فإن الهروب منها فيه السلامة ولا يعدل السلامة شيء فمن قدر عليها مع توفية ما عليه من الحقوق وإبقاء مقامه الخاص مع مولاه فهذا عند أهل الحقيقة والشرعية أو حد زمانه والضعيف عند أهل الحقيقة هو الهارب عن المخالطة والضعيف عند أهل الفقه هو الذي لا يقدر أن يخرج عن المخالطة، انتهى.
          (قَالَ) أي: عمر (لَيْسَ هَذَا) أي: المذكور وإلا فالظاهر ليس هذه (أُرِيدُ، وَلَكِنِ) بتخفيف النون (الْفِتْنَةُ) بالنصب بأريد محذوفاً وفي بعض الأصول المعتمدة بالرفع وفي بعضها ولكن بتشديد النون فالفتنة اسمها.
          وقوله: (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ) وكذا وصفها بما ذكر لشدة عظمتها وشيوعها (قَالَ) أي: حذيفة لعمر.
          (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً) وللأربعة لبابا (مُغْلَقاً) من أغلق وأما غلقت مجرداً فلغة رؤية كما قاله الجوهري و((القاموس)).
          وقال ابن درستويه: والعامة تقول غلقت بدون ألف وهو خطأ والمعنى لا يخرج شيء من الفتن مدة حياتك.
          (قَالَ) أي: عمر (أَيُكْسَرُ) بالبناء للمفعول مخففاً كيفتح (هذا الباب أَمْ يُفْتَحُ قَالَ حذيفة يُكْسَرُ) أي لا يفتح.
          قال النووي: غرضه أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت كما في بعض الروايات ويحتمل أن حذيفة علم أن عمر يقتل لكن كره أن يخاطبه بالقتل فإن عمر يعلم أنه الباب فأتى بعبارة يحصل منها الغرض ولا تكون إخباراً صريحاً بقتله.
          (قَالَ) أي: عمر (إِذاً لاَ يُغْلَقَ أَبَداً) إذ الإغلاق في الصحيح لا في المكسور فإن الكسر هتك لا يجبر وهو في الغالب لا يكون إلا عن غلبة ولذا انخرق عليهم بقتل عمر ثم عثمان من الفتن ما لا يغلق أصلاً.
          قال الكرماني وهي الدعوى التي لم تجب منه صلعم في أمته لا يغلق روي مرفوعاً ومنصوباً فالرفع وهو رواية الكشميهني خبر لمحذوف نحو الباب والنصب بإذن بعدم تقديره فهي مصدره والفعل بعدها مستقبل متصلاً بها وفصله بلا غير ضار كالفصل بالقسم وفي كتابه إذن بالنون أو بالألف خلافاً.
          (قُلْنَا) أي: لحذيفة مقول شقيق (أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ) أي: حتى قال إذن لا يغلق (قَالَه) أي حذيفة (نَعَمْ) أي: كان عمر يعلم الباب (كَمَا أَنَّ دُونَ) وفي بعض الأصول وراء.
          (اللَّيْلَةَ الْغَدِ) أي: يعلمه كعلمه أن الليلة أقرب من الغد ففي الجوهري يقال هو دون ذلك أي أقرب منه قيل إنما علمه عمر لأنه ◙ لما كان على حراء هو والعمران وعثمان فاهتز قال ◙ اثبت حراء إنما عليك نبي وصديق وشهيدان.
          وجملة (إِنِّي) بكسر الهمزة (حَدَّثْتُهُ) أي: عمر (بِحَدِيثٍ) أي: صدقة ولذا وصفه بقوله: (لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ) مقول حذيفة أيضاً والأغاليط بفتح الهمزة جمع أغلوطة بضمها وهي التي يغالط بها.
          وقوله: (فَهِبْنَا) أي: معشر من حضر الحديث (أَنْ نَسْلَ حُذَيْفَةَ) أي: من الباب (فَأَمَرْنَا) بسكون الراء (مَسْرُوقاً) أي: أنه يسأل (فَسَأَلَهُ) أي: لحذيفة (الْبَابُ عُمَرُ) مقول شقيق وهذا لا ينافي قوله سابقاً إن بينك وبينها باباً مغلقاً؛ لأن / المراد بقوله بينك وبينها أي: بين زمانك وبين زمان الفتنة وجود حياتك والمراد بين نفسك وبين الفتنة بذلك إذ هو غير الروح أو بين الإسلام والفتنة فيه وعلم حذيفة أن الباب عمر من الرسول بقرينة السؤال والجواب ولأنه قال حدثته والحديث المطلق لا يستعمل إلا في حديثه قاله الكرماني قيل سأل عمر عن الفتنة التي تكون بعده مع أنه الباب خوفاً أن يدركها لشدة خوفه أو نسي فسأل من ذكره.
          قال ابن رجب وقد كانت الصحابة تعرف أن بقاء عمر أمان للناس من الفتنة وفي مسند أحمد أن خالد بن الوليد لما عزله عمر قال له رجل اصبر أيها الأمير فإن الفتن قد ظهرت فقال خالد وابن الخطاب حي إنما يكون بعده.
          وأخرج البزار من حديث عثمان بن مظعون أن النبي سمى عمر غلق الفتنة.
          وقال: لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم.
          والحديث أخرجه المؤلف في الصلاة وعلامات النبوة والفتن والصوم، ومسلم والترمذي وابن ماجه في الفتن.