الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كسر الصليب وقتل الخنزير

          ░31▒ (باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ) ((كَسْر)) بفتحِ الكافِ وسكونِ السِّين المهملةِ، مصدَرُ: كسرِ الشَّيءِ بفتحِ السِّينِ يكسرُهُ بكسرِهَا وتشدَّدُ السِّينُ للمُبالغةِ في الفعلِ، و((الصَّلِيْب)) بفتح الصَّاد المهملةِ فلامٌ مكسورةٌ فتحتيَّةٌ ساكنَةٌ فموحَّدَةٌ، هو كما قالَ الشُّراحُ: المربَّعُ المشهورُ للنَّصَارى، يزعمُونُ أنَّ عيسَى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صُلبَ على خشبَةٍ على تلكَ الصُّورةِ، وقد أكذبَهُم اللهُ تعالى بقولهِ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وأصلُهُ من خشَبٍ وربَّما يعملُونَهُ من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو نُحاسٍ أو غيرِهَا.
          قالَ شيخُ الإسلامِ كالعَينيِّ: أي: بابُ بيَانِ أنَّ النَّبيَّ صلعم أخبَرَ عن كسرِ عيسَى عليهِ السَّلام عندَ نزُولهِ؛ أي: من السَّماءِ / صُلبانِ الذِّميِّينَ وأوثَانِ المشركِينَ وقتلِ خنَازيرِهِم، وليسَ المرادُ الإشَارةُ إلى جوَازِ كَسرِنَا صلبانَهُم وقتلِ خنازِيرِهِم، فإنَّا أُمِرنا بتَركِهِم وما يدِينُونَ به فيضمَنُ من أتلَفَ عليهِم شيئاً من ذلكَ.
          وأمَّا كسرُ صُلبَانِ أهلِ الحَربِ وقتلِ خنازِيرِهِم فهُمَا جائزَانِ لا شيءَ فيهمَا على فاعلِهِمَا، وكَذا إذَا جاوَزَ أهلُ الذِّمَّةِ الحدَّ الَّذي عُوهِدُوا عليهِ.
          لكن قالَ في ((الفتح)): وفي إيرادِهِ هنا إشَارةٌ إلى أنَّ من قتَلَ خنزِيراً أو كسَرَ صَلِيباً لا يضمَنُ؛ لأنَّهُ فعل مأمُوراً به، وقد أخبَرَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بأنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ سيفعَلهُ، وهو إذا نزَلَ كانَ مُقرِّراً لشَرعِ نبيِّنَا صلعم، انتهى.
          وأقولُ: يحتمِلُ أنَّ المصنِّفَ قصدَ بالتَّرجمَةِ الأمرَينِ، فتأمَّل.
          تنبيهٌ: الحكمَةُ في أنَّ عيسَى يكسِرُ صُلبَانَ أهلِ الذِّمَّةِ ويقتُلُ خنازِيرَهُم أنَّه لا يُقرُّهم وأنَّه لا يقبَلُ منهُم الجزيَةَ، فإنَّ قَبُولها منهم مضَى في شَرعِنَا إلى نزُولِهِ عليه السَّلامُ لعَدمِ احتيَاجِهِ إليهَا لفَيضِ المالِ في زمنِهِ بخرُوجِ الكُنوزِ لهُ بخلافِ زمَانِنَا، فإنَّا قبلنَاهَا منهُم فيه لاحتيَاجِنَا إلى المالِ بخِلافِ عيسَى، قالَهُ ابنُ الملقِّنِ.
          وقالَ الكرمانيُّ: فإن قلتُ: هذا خلافُ حُكمِ الشَّرعِ، فإنَّ الكتابيَّ إذا بذَلَ الجِزيةَ وجَبَ قبُولها ولم يجُزْ إكراهُهُ على الإسلامِ أو قتلُهُ؟
          قلتُ: هذا الحُكمُ منتَهٍ بنزُولِ عيسَى عليه السَّلامُ، وقد أخبرَنَا رسُولُ اللهِ صلعم في مثلِ هذا الحديثِ بنسخِهِ وليسَ عيسَى هو النَّاسخُ، بل نبيُّنَا هو المبيِّنُ للنَّسخِ فإنَّ عيسَى تابِعٌ لشَريعتِنَا عندَ نزُولِهِ، وقيلَ: معنَاهُ يضَعُ الجزيَةَ على جميعِ الكفرَةِ، انتهى.