الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب النهبى بغير إذن صاحبه

          ░30▒ (باب النُّهْبَى) أي: بيَانُ حُكمِهَا من أنَّها منهيٌّ عنهَا (بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ) أي: صاحبِ الحقِّ أو المالِ المنهُوبِ، و((النُّهْبَى)) بضمِّ النُّون وسكُون الهاءِ وفتحِ الموحَّدة مقصُورةً، اسمٌ لما انتهَبَ.
          قال في ((القاموس)): النَّهْبُ الغنِيمَةُ، والجَمعُ: نِهابٌ ونَهَبَ النَّهْبَ، كجَعَلَ وسمعَ وكَتَبَ: أخَذَهُ كانتَهَبَهُ والاسمُ النُّهْبَة، والنُّهْبَى والنُّهبَى والنُّهَيْبَى، والنُّهَّيْبَى كسُمَّيْهَى، والنَّهبُ أيضاً ضَرْبٌ من الرَّكضِ وكُلُّ ما انتُهِبَ، انتهى.
          وقالَ غيرُهُ: النَّهبُ أخذُ الشَّخصِ الشَّيءَ من غيرِهِ قَهراً عَيَاناً.
          وقالَ في ((الفتح)): / هو أخذُ المرءِ الَّذي لهُ جِهَاراً ونهَبُ مَالِ الغَيرِ غيرُ جَائزٍ، ومفهُومُ التَّرجمةِ أنَّه إذا أذِنَ جازَ، ومحلُّهُ في الموهُوبِ المشَاعِ كالطَّعامِ يقدَّمُ لقَومٍ فلِكُلٍّ منهُم أن يأخُذَ ممَّا يليهِ، ولا يجذَبُ من غيرِهِ إلَّا برضَاهُ، وبنَحوِ ذلك فسَّرهُ النَّخعيُّ وغيرُهُ، انتهى.
          وتفسيرُهُ بما ذكرَهُ تفسيرٌ مرَادٌ، لكِن عليهِ أنَّ ضمِيرَ صاحبِهِ للشَّخصِ، ويكونُ الصَّاحبُ بمعنَى: الرَّفيقِ فتأمَّل، فإنَّ كلامَهُ لا يخلُو من غمُوضٍ.
          وقالَ في ((التنقيح)): والمرادُ بهِ في الغنِيمةِ لتَوقُّفِهَا على القسمَةِ وأشمَلُ منَ الكلامَينِ ما في الكرمَانيِّ حيثُ قالَ: ومعلُومٌ أنَّ أموالَ المسلمِينَ محرَّمةٌ فيُؤوَّلَ هذا في الجمَاعةِ يغزُونَ، فإذا غَنمُوا انتهَبُوا بأن يأخُذَ كلُّ واحدٍ ما وقَعَ في يدِهِ مُستأثِراً بهِ من غيرِ قسمَةٍ وكالموهُوبِ المشَاعِ فينتَهِبُونهُ على قَدرِ قوَّتهِم، وكذلكَ الطَّعَامُ يقدَّمُ إليهِمْ فلِكُلِّ واحدٍ أن يأكُلَ ممَّا يليهِ ولا يجذِبَ من عندِ غيرِهِ، انتهى.
          ومُقتَضَى كلامِهِم المذكُورِ أن يقدَّرَ في التَّرجمةِ بابُ جوَازِ النُّهبَى بغيرِ إذنِ صاحبهِ فتدَبَّر، فإنَّ حدِيثَ البَابِ يدلُّ لما قدَّرنَاهُ.
          (وَقَالَ عُبَادَةُ) بضمِّ العينِ المهملةِ وتخفيفِ الموحَّدةِ؛ أي: ابنُ الصَّامتِ الأَنصَاريِّ ☺، ممَّا وصلَهُ المصنِّفُ في بابِ: وفُودِ الأنصَارِ الآتي، وفيما مرَّ في كتابِ الإيمَانِ (بَايَعْنَا) بسكونِ العينِ المهملةِ، ولو قُرئَ بفتحِهَا لم يمتَنِع، ثمَّ رأيتُهُ مضبُوطاً بالوجهَينِ في بَعضِ الأصُولِ.
          فقولُهُ: (النَّبِيَّ صلعم) منصُوبٌ على الأوَّلِ ومرفُوعٌ على الثَّاني (أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ) بنُونينِ ففوقيَّةٌ، و((أن)) بفتحِ الهمزَةِ بتقدِيرِ على، وثبتَتْ في بعضِ الأصُولِ.
          قالَ في ((الفتح)): كانَ من شَأنِ الجاهليَّةِ انتهَابَ ما يحصُلُ لهُم من الغَارَاتِ، فوقَعَتِ البَيعةُ على الزَّجرِ عن ذلكَ.
          وقالَ ابنُ بطَّال: الانتهَابُ المحرَّمُ ما كانتِ العرَبُ عليهِ من الغارَاتِ، وهو المنهيُّ عنه في حديثِ عُبادَةَ، وقالَ ابنُ المنذِرِ: النُّهبَةُ المحرَّمَةُ أن ينتَهِبَ مالَ الشَّخصِ بغيرِ إذنِهِ وهو له كارِهٌ، وأمَّا المكرُوهُ فهو ما أذَّنَ فيهِ صاحِبهُ لجمَاعةٍ وأباحَهُ لهُم، وغرضُهُ تسَاويهِم فيه أو تقاربُهُم فيُغلَبُ القَويُّ على الضَّعيفِ.
          وقالَ في ((الفتح)): وكرِهَ مالِكٌ وجماعَةٌ النَّهبَ في نثَارِ الغرسِ؛ لأنَّه إمَّا أن يحمَلَ على أنَّ صاحبَهُ أذِنَ للحاضرِينَ في أخذِهِ، وظاهرُهُ يقتَضِي التَّسوِيةَ، والنَّهبُ يقتضِي خلافَهَا، وإمَّا أن يحملَ على أنَّهُ علَّقَ التَّملِيكَ على ما يحصُلُ لكُلِّ أحدٍ وفي صحَّتهِ اختِلافٌ.
          وقالَ ابنُ بطَّالٍ: كرهَهُ مالكٌ والشَّافعيُّ، وأجازَهُ الكوفيُّونَ، ومعَ كراهَتِهِ فلا يجرَحُ أخذُهُ بالشَّهادةِ، قالهُ ابنُ المنذِرِ.