الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء

          ░29▒ (بابٌ) بالتَّنوينِ (إِذَا اخْتَلَفُوا) أي: النَّاسُ لدَلَالةِ المقَامِ عليهِ (فِي الطَّرِيقِ) أي: في مقدَارِ عَرضِ الطَّريقِ العَامِّ أو أعمَّ ولا يُنافِي الثَّانِي.
          قولُهُ: (الْمِيتَاءِ) فتأمَّل، وهو مجرُورٌ نَعتٌ للطَّريقِ، و((المِيْتَاء)) بكسرِ الميمِ وسكونِ المثنَّاةِ التَّحتيَّةِ المبدلَةِ من الهمزةِ وبالفوقيَّةِ فألفٌ ممدُوداً على وزنِ مِفعَال، فالميمُ زائدةٌ من الإتيَانِ؛ أي: الَّتِي يأتِيهَا النَّاسُ ويسلُكُونَها، ويُحتمَلُ أنَّها منَ الموَاتِ، فالميمُ أصليَّةٌ فوزنُهَا فُعلَى فتدَبَّر.
          وفي بعضِ النُّسخِ: <المِيتَا> مقصُورٌ بوزنِ: مِفعَل، وجوَابُ ((إذا)) محذُوفٌ تقديرُهُ جعلَ قَدرِ الطَّرِيقِ المشتَرَكِ سبعَةَ أذرُعٍ على مَا في / الحدِيثِ وقَدرِ الحاجَةَ عَلى مذهَبِ الشَّافعيِّ بحَملِ مَا في الحدِيثِ على الغَالبِ، كَذا قالَهُ شَيخُ الإسلامِ، أو لأنَّ ذلكَ عُرفُ المدينَةِ كمَا صرَّحَ بذلِكَ الماوَرديُّ والرَّويانِيُّ، وجوَّزَ بعضُهُم أن يكُونَ جوَابُ ((إذا)) فيترَكَ... إلخ، فتأمَّل.
          وفسَّرَ المصنِّفُ الأرضَ الميتَاءَ، بقولِهِ: (وَهْيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ) أي: بينَ أجزائِهَا، وفي بعضِ النُّسخِ: <في الطريق> وفسَّر أبُو عَمرٍو الشَّيبانيُّ الميتَاءَ بأنَّهَا أعظَمُ الطُّرقِ، وهي الَّتي يكثُرُ مرُورُ النَّاسِ بها.
          وقالَ ابنُ التِّينِ: هي الطَّريقُ الوَاسِعةُ، وقيل: العامِرةُ، وقيل: هيَ الفِناءُ _بكسرِ الفاءِ_، وأمَّا الميثَاءُ _بالمثلَّثةِ_ فهي كمَا في ابنِ الملقِّنِ، و((القاموس)): الأرضُ السَّهلَةُ، لكن يقتَضِي كلامُ ((القاموس)) أنَّ ميمَهَا أصليَّةٌ، فإنَّهُ قال في بابِ المثلَّثةِ: الميْثُ المَوثُ كالتَّمييْثِ والامْتِيَاثِ، والميثَاءُ: الأرضُ السَّهلَةُ، والجَمعُ: مِيَثٌ كهِيَف، وموضِعٌ بالشَّامِ، انتهى.
          والرَّحْبة: _بفتح الرَّاء والحاءِ المهملةِ_، ويقالُ: بالتَّسكينِ نقَلهُ الزَّركشيُّ عن الأزهرِيِّ، وقالَ في ((القاموس)): رحُبَ ككَرُمَ وسمِعَ رُحْباً _بالضمِّ_، ورَحابَةً فهو رَحْبٌ ورَحِيبٌ ورُحابٌ _بالضَّمِّ_، اتَّسعَ كأرْحَبَ وأرْحَبَهُ وسَّعَهُ، ثمَّ قال: ورَحَبَةُ المكانِ وتُسَكَّنُ: ساحَتُه ومُتَّسَعُه، انتهى.
          (ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا) أي: الرَّحبَةِ (الْبُنْيَانَ) بضمِّ الموحَّدةِ أوَّلهُ (فَتُرِكَ) ماضٍ مبنِي للمجهُولِ، ولأبي الوقتِ في نسخَةٍ: <فيَترُك> مُضَارعاً (مِنْهَا) أي: الرَّحبَة (الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ) بالتَّاء، وفي نسخَةٍ: <سبعَ أذرُعٍ> بحذفِهَا، ولأبي ذرٍّ: <فيترُكَ منها للطَّريقِ سبعَةَ أذرُعٍ> بلام الجرِّ في الطَّريقِ فتكُونُ متعلِّقةً بـ((يترك)) على أنَّها للتَّعليلِ، و((سبعَةُ)) نائبُ فاعلِ ((يُترَكُ)) وأمَّا على روَايةِ غيرِهِ فـ((الطَّريقُ)) نائبُ فاعلٍ، و((سبعَةَ)) بدلٌ منه أو حَالٌ، فافهَم.
          قالَ في ((الفتح)): وهذا مصِيرٌ من المصنِّفِ إلى اختصَاصِ هذا الحُكمِ بالصُّورَةِ الَّتي ذكَرَهَا، ووافقَهُ الطَّحاويُّ على ذلكَ فقالَ: لم نجِدْ لهذا الحدِيثِ معنَى أَولَى من حملِهِ على الطَّريقِ الَّتي يُريدُ ابتدَاءَهَا إذا اختلَفَ مَن يبتَدِئُها في قدرِهَا كبَلدٍ يفتحُهَا المسلمُونَ وليسَ فيهَا طرِيقٌ مسلُوكٌ، وكمَوَاتٍ يُعطِيهَا الإمَامُ لمن يُحيِيهَا إذا أرَادَ أن يجعَلَ فيهَا طرِيقاً للمَارَّةِ ونحوَ ذلك.
          وقالَ غيرُهُ: مرَادُ الحديثِ أنَّ أهلَ الطَّريقِ إذا تراضَوا على شَيءٍ كانَ لهُم ذلكَ، وإنِ اختَلفُوا جعلَ الطَّريقَ سبعَةَ أذرُعٍ، وكذلِكَ الأرضُ الَّتي تزرَعُ مثلاً إذا جعَلَ أصحَابُهَا فيهَا طَرِيقاً كانَ باختيَارِهِم، وكذلكَ الطَّريقُ الَّتي لا تُسلَكُ إلَّا في النَّادرِ يرجِعُ في أفنيَتِهَا إلى مَا يترَاضَى عليهِ الجيرَانُ، انتهى.
          وسيَأتِي لذلكَ تتمَّةُ بحثٍ في شَرحِ حديثِ البَابِ.