الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الانتصار من الظالم

          ░6▒ (باب الاِنْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ) أي: بابُ بيانِ جوازِ انتصَارِ الشَّخصِ المظلومِ ممَّن ظلَمَه، و((الانتصار)) مصدرُ: انتَصَرَ منه؛ إذا أخذَ حقَّه (لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) وفي بعضِ الأصُولِ: <لقولِ اللهِ جلَّ ذِكرُه> وفي بعضٍ آخرَ: <لقولِه تعالى> وفي بعضٍ آخرَ: <وقولِه ╡> بواو العطفِ، والتَّعليلُ أنسبُ.
          وجملةُ: ({لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}) مقولُ القولِ، وهي في سورةِ النِّساءِ، قولُه: {لا يُحِبُّ اللهُ}؛ أي: يَكرَهُ ولا يَرضى الجهرَ؛ أي: الإعلانَ بالسُّوءِ من القولِ، ومثلُه الفعلُ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.
          قال البيضاويُّ: إلَّا جهرَ مَن ظُلمَ بالدُّعاءِ على الظالمِ والتَّظلُّمِ منه، رويَ أنَّ رجلاً ضافَ قَوماً فلم يُطعِموه، فاشتكاهم، فعُوتِبَ عليه، فنزلَتْ. قال: وقُرئَ: ▬إلا مَن ظَلَمَ↨ بالبناء للفاعل، فيكونُ الاستثناءُ منقطِعاً؛ أي: ولكنِ الظَّالمُ يفعَلُ ما لا يحبُّهُ اللهُ، انتهى.
          وأقول: جعلَهُ على البناءِ للمفعولِ بتقديرِ مُضافٍ؛ ليكونَ الاستثناءُ متصلاً، ولو جُعلَ: ((من)) مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: فيحبُّهُ الله، والجملةُ مستثناةٌ استِثناءً منقَطِعاً، لَجازَ على حدِّ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22] الآيةَ، وقوله: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً} أي: لكلامِ المظلومِ، عليماً بالظَّالمِ؛ أي: فيُجازيه.
          قال في ((الفتح)): روى الطبَرانيُّ من طريقِ السُّدِّيِّ في قوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: فانتصَرَ بمثلِ ما ظُلمَ به، فليس عليه مَن مَلامٍ، قال: ونزولُ الآيةِ في واقِعةِ عينٍ، لا يمنَعُ حَملَها على عمومِها، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّنِ كابنِ بطَّالٍ: الانتصارُ من الظَّالمِ مُباحٌ بهذه الآيةِ، وروى ابنُ أبي نُجيحٍ عن مجاهدٍ قال: نزلت هذه الآيةُ في الرجلِ يمرُّ بالرَّجلِ فلا يُضيفُه، فرخَّصَ له أن يقولَ فيه: لم يُحسِنْ ضيافَتَه، ويؤذيَه بما فعلَ به، وقيل: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} يدعو على ظالمِه، أو يخبرُ بظُلمِهِ إيَّاه، أو يستنصِرُ منه، وقيل: إنه الصِّدِّيقُ ☺، شتمَه رجلٌ، فسكتَ، ثمَّ أعادَ، فردَّ عليه؛ أي: فنزلَتِ الآيةُ.
          وقال العينيُّ: قال عبدُ الكريمِ بنُ مالكٍ الجزريُّ: في هذه الآيةِ هو الرجلُ يشتِمكُ فتَشتِمُه، ولكن إنِ افترى عليك فلا تفترِ عليه؛ لقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]، وروى أبو داودَ من حديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((المستَبَّانِ ما قالا فعلى البادئِ منهما ما لم يعتَدِ المظلومُ)).
          ({وَالَّذِينَ إذا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}) هذه الآيةُ في سورةِ الشُّورى عطفٌ على الآيةِ قبلَها الواقعةِ مَقولَ القولِ هنا، ومحلُّ: {الَّذِينَ} بحسَبِ سورتِها الجرُّ عطفاً على: {الَّذِينَ آمَنُوا} في قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الشورى:36]، فتأمَّل.
          وقوله: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} محلُّ {هُمْ} نصبٌ إن جُعلَ توكيداً للهاءِ في {أَصَابَهُم}، فإن جُعلَ مبتدأً، فمحَلُّه: رفعٌ بالابتداءِ، والجملةُ بعده خبرُه، فتدبَّر.
          قال في ((الفتح)): روى الطَّبريُّ من طريقِ السُّدِّيِّ أيضاً في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} / قال: يعني: ممَّن بغى عليهم من غيرِ أن يعتَدُوا، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ البَغْيُ...} الآيةَ؛ أي: بغيُ المشركين عليهم في الدِّينِ، انتَصَروا منهم بالسَّيفِ، وإذا بغى عليهم باغٍ، كَرِهوا أن يستذَلُّوا؛ لئلا يجتَرِئَ عليهم الفُسَّاقُ، فإذا قدَرُوا عفَوا عمَّا ذُكرَ.
          (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعيُّ (كَانُوا) أي: السَّلفُ (يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا) بالبناء للمفعول والذال المعجمة من الذُّل (فَإِذَا قَدَرُوا) أي: السَّلفُ على أخذِ حقِّهم (عَفَوْا) بفتح الفاء؛ أي: تجاوَزُوا، وقال ابنُ بطَّالٍ: وفي معنى كلامِ إبراهيمَ ما رويَ أنَّه عليه السلامُ استعاذ باللهِ من غلَبةِ الرِّجالِ، واستعاذَ من شماتةِ الأعداءِ.
          تنبيه: قال ابنُ الملقِّنِ ما حاصِلُه: وقد وصلَ تعليقَ إبراهيمَ المذكورِ عبدُ بنُ حُميدٍ في ((تفسيرِه)) عن قَبيصةَ قال: حدَّثنا سفيانُ عن منصورٍ عنه بلفظِ ما ذكرَه المصنِّفُ، وفي روايةٍ أخرى بلفظ: قال منصورٌ: سألتُه عن الآيةِ، قال: كانوا يكرَهون للمؤمنين أن يذِلُّوا أنفُسَهم، فيجترِئَ الفُسَّاقُ عليهم، وهذا يرُدُّ قولَ ابنَ التِّينِ: قولُ إبراهيمَ: كانوا يكرَهون أن يُذِلُّوا أنفسَهم، زادَ غيرُه: فيجترِئَ عليهم الفُسَّاقُ، وقد علمتُ أنَّه زادَها هو لا غيرُه.
          وقيل: معنى الآيةِ: إذا بُغيَ عليهم تناصَرُوا وأزالُوه، وقال تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]؛ أي: ولمَنِ استَوفى حقَّه، فأباحَ الانتصارَ بهذه الآياتِ، والبغيُ: الظُّلمُ، فينتصِرُ المظلومُ ممَّن ظلَمَه، فيقتصُّ منه، جزاء سيِّئةٍ سيئة مثلها، انتهى.
          ولم يذكُرْ في البابِ حديثاً، كأنَّه لم يجِدْه على شَرطِه، ولعلَّهُ يشيرُ إلى حديثٍ أخرجه النَّسائيُّ وابنُ ماجه بإسنادٍ حسنٍ عن عائشةَ ♦ قالت: دخلتُ على زينبَ بنتِ جحشٍ، فسبَّتني، فردَعَها النبيُّ صلعم، فأبَتْ، فقال لي: ((سُبِّيها))، فسبَبتُها حتى جَفَّ ريقُها في فمِها، فرأيتُ وجهَه يتهلَّلُ.
          وفي لفظٍ ذكرَه في ((الكشَّافِ)): فقال لعائشةَ: ((دونَكِ فانتَصِري))، والمطابقةُ فيه ظاهرةٌ كالآيتَينِ.