الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات

          ░22▒ (باب أَفْنِيَةِ الدُّورِ) أي: بيَانُ حُكمِ أفنيَةِ الدُّورِ من جوَازِ بنَاءِ نحوِ مسطَبةٍ فيهَا (وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا) أي: إذا لم يضُرَّ بالجَارِّ والمارِّ، ولذَا قالَ في ((الفتح)): والتَّرجمَةُ معقُودةٌ لجوَازِ تحجِيرِهَا بالبنَاءِ، قال: وعليهِ جرَى العَملُ في بنَاءِ المسَاطِبِ في أبوابِ الدُّورِ، قالَ: والجوَازُ مقيَّدٌ بعدَمِ الضَّررِ للجَارِ والمارِّ، انتهى.
          وأقول: الرَّاجحُ عندَ الشَّافعيَّةِ أنَّه لا يجُوزُ بناءُ نحوِ المسَاطِبِ في فنَاءِ الدُّورِ والطُّرقَاتِ مطلَقاً وإن لم يتأَذَّ بها أحَدٌ، وأفنِيَة بالفاءِ والنُّون كأمتعَةٍ جمع قِلَّةٍ، والفِنَاء _بكسرِ الفاءِ والمدِّ وقد يقصَرُ_، المكَانُ المتَّسعُ أمَامَ الدَّارِ قالَهُ في ((القاموس)) وغيرِهِ.
          وقالَ العينيُّ: هو ما امتَدَّ من جوَانِبِ الدَّارِ، قالَ وفي ((المغرب)): هو سعَةٌ أمَامَ البُيوتِ، وقالَ ابنُ ولادٍ هو حرِيمُ الدَّارِ، انتهى.
          (وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ) وهي بضمِّ الصَّادِ والعينِ المهملتينِ، جمعُ: صُعُد بضمِّهما أيضاً، قالَ في ((الفتح)): وقد يفتحُ أوَّلهُ، أو هو جمعُ: صعِيدٍ، كطرِيقٍ وطُرُقاتٍ وزناً ومعنَى، قالَ: ويلتَحِقُ بما ذكرَ ما في معنَاهُ من الجُلوسِ في الحوَانيتِ والشَّبابيكِ المشرفَةِ على المارَّةِ حيثُ تكُونُ في غيرِ العُلوِّ، انتهى ما في ((الفتح)).
          ولأبِي ذرٍّ: <الصَّعَدات> بفتح العينِ وضمِّها، والمرَادُ بهِ: ما يرَادُ من الفنَاءِ، وزَعمَ ثعلَبٌ أنَّ المرَادَ بالصَّعدَاتِ وَجهُ الأَرضِ.
          وقالَ العينيُّ: وقيلَ: الصُّعُداتُ جمعُ: صُعُد _بضمَّتَينِ_ والصَّعدُ جمعُ: صعِيدٍ، فيكُونُ الصَّعدَاتُ جمعُ الجَمعِ، كطُرُقٍ فإنَّه جَمعُ طرِيقٍ، ويجمَعُ على طُرُقاتٍ / .
          قالَ: وقالَ ابنُ الأَثيرِ: وقيلَ هي جمعُ صُعُدةٍ كظُلمةٍ، وهي فنَاءُ بابِ الدَّارِ وممرُّ النَّاسِ بين يدَيهَا، انتهى.
          وقالَ في ((القاموس)): الصَّعِيدُ التُّرابُ أو وَجْهُ الأَرضِ، والجَمعُ: صُعُدٌ وصُعُداتٌ، والطَّرِيقُ ومنه: إيَّاكُم والقُعُودَ بالصُّعُداتِ، والقَبْرُ، وبلادٌ بمِصرَ مسيرَةَ خمسَةَ عشَرَ يوماً طولاً، وموضِعٌ قُربَ وادِي القُرَى به مسجِدٌ للنَّبيِّ صلعم.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ ♦: فَابْتَنَى) بسكُونِ الموحَّدةِ فمثنَّاةٌ فوقيَّةٌ مفتوحةٌ، من الابتنَاءِ، والفَاءُ عاطِفةٌ على (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ ☺ (مَسْجِداً) أي: بمكَّةَ (بِفِنَاءِ دَارِهِ) بكسرِ الفاءِ، كمَا مرَّ (يُصَلِّي فِيهِ) أي: في المسجِدِ المذكُورِ.
          (وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ) بتحتيَّةٍ بعدَ الفاءِ ثمَّ مثنَّاةٍ فوقيَّةٍ فقاف فصادٌ مهملةٌ مشدَّدةٌ مفتوحاتٌ آخرُهُ فاء، من القصْفِ وهو الكسرُ والدَّفعُ الشَّديدُ، ويُروى كما مرَّ في أبوابِ المساجِدِ فيتقذَّفُ بذالٍ معجمةٍ مشدَّدةٍ بدلَ الصَّاد، وهو بمعنَى: فيتقَصَّفُ (عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ) والمرادُ: أنَّهم يزدَحِمُون عليه حتَّى يسقُطَ بعضُهُم على بعضٍ فيكادُونَ أن يتكسَّروا لفَرطِ الازدِحَام (يَعْجَبُونَ) بفتحِ الجيمِ مخفَّفةً، وفي بعضِ الأصُولِ: <يتعَجَّبون> بزيادةِ مثنَّاةٍ فوقيَّةٍ فالجيمُ مشدَّدةٌ (مِنْهُ) أي: من أبِي بكرٍ؛ لأنَّه فعَلَ ما لا يألَفُونَهُ، ويحتملُ أنَّ ضَمِير منهُ لفعلهِ المفهُومِ من المقَامِ.
          وجملةُ: (وَالنَّبِيُّ صلعم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ) حاليَّةٌ، وصاحبُها فاعِلُ أحدِ الأفعَالِ المذكُورَةِ، وأمَّا جملَةُ: ((يعجبون)) فإمَّا حالٌ أو مستأنَفَةٌ فافهَمْ.
          وهذا التَّعليقُ طَرفٌ من حديثٍ طوِيلٍ وصلَهُ المصنِّفُ فيمَا يَأتِي في الهجرَةِ بطُولهِ، ومضَى في أبوَابِ المساجِدِ وكَذا في الكَفَالة.
          قال العَينيُّ: ذكرَ هذا التَّعلِيقَ دليلاً على جوَازِ التَّصرُّفِ من صاحِبِ الدَّار في فنَاءِ دارِهِ، وهُو أيضاً يوضِحُ الحُكمَ الذي أبهَمهُ في التَّرجمةِ، انتهى.