الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إماطة الأذى

          ░24▒ (باب إِمَاطَةِ) بكسرِ الهمزةِ وبالميمِ والطَّاءِ المهمَلةِ، مصدَرُ: أمَاطَ الشَّيءَ إذا نحَاهُ؛ أي: طلَبَ تنحِيَةَ (الأَذَى) هو بالذَّالِ المعجمةِ، كُلُّ ما يُؤذِي؛ أي: إزَالَتهُ عن المسلمِينَ في طريقِهِم وغيرِهِ، لكن مُقتَضَى حدِيثِ البَابِ تخصِيصُهُ بالطَّريقِ إلَّا أن يقالَ: قَاسَ المصنِّفُ غيرَ الطَّريقِ عليهِ.
          (وَقَالَ هَمَّامٌ) بفتحِ الهاءِ وتشديدِ المِيمِ الأُولَى؛ أي: ابنُ منبِّهٍ، وهو أخُو وهَبٍ المشهُورُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: تُمِيطُ) بضمِّ أوَّله (الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) برَفعِ: ((صدَقَةٌ)) خبرُ المصدَرِ المنسَبِكِ من ((تُمِيطُ))؛ لأنَّه على تقديرِ: أن، أو لأنَّهُ أرِيدَ بهِ المصدَرُ فهو على حدِّ: تسمَعُ بالمُعِيدِي خَيرٌ من أن ترَاهُ.
          وهَذا التَّعليقُ طرَفٌ من حدِيثٍ قد وصلَهُ المصنِّفُ في بابِ: من أخَذَ بالرِّكابِ في كتَابِ الجهَادِ، وليسَ هو من قولِ أبِي هُريرةَ كمَا ادَّعاهُ ابنُ بطَّالٍ؛ أي: لأنَّهُ لم يقَعْ له قولهُ عن النَّبيِّ صلعم لكنَّهُ قال ليسَ هو مِن رأيهِ؛ لأنَّ الفضَائلَ لا تدرَكُ بالقيَاسِ، انتهى.
          قالَ ابنُ الملقِّنِ وغيرُهُ: والأصلُ في هذا كلِّهِ قولُهُ تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7].
          وروى البزَّارُ بإسنادٍ جيِّدٍ: ((حُوسِبَ رجُلٌ فلم يجِدْ له من الخَيرِ إلَّا غُصنَ شَوكٍ نحَاهُ عن الطَّريقِ))، ولابنِ زَنجَويه من حدِيثِ إبراهِيمَ الهجرِيِّ عن أبي عيَاضٍ عنه: ((على كُلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ صدقَةٌ)) قالوا: ومن يُطِيقُ هذا يا رسَولَ اللهِ؟ قالَ: ((إمَاطتُكَ الأَذَى عن الطَّريقِ صدقَةٌ)).
          ومن حدِيثِ ابنِ لهيعَةَ، عن درَّاجِ أبِي السَّمحِ، عن أبي الهَيثَمِ، عن أبي سعيدٍ مَرفُوعاً: ((غفَرَ اللهُ لرَجُلٍ أمَاطَ عن الطَّريقِ غُصنَ شَوكَةٍ، ما تقدَّمَ من ذَنبهِ وما تأخَّرَ)) ولابنِ أبي شيبَةَ من حدِيثِ عيَاضِ بن عطَيفٍ عن أبي عُبيدَةَ مرفُوعاً: ((أو أمَاطَ أذًى عن طَريقٍ فحَسَنتُهُ بعَشرِ أمثَالِها))، ومن حديثِ أبي هِلالٍ عن قتادةَ عن أنَسٍ: كانَت سمرَةٌ على طريقِ النَّاسِ فكانَتْ تُؤذِيهِم فعَزَلهَا رجُلٌ عن طرِيقِهِم قال النَّبيُّ صلعم: ((فلقَدْ رأَيتُهُ يتَقلَّبُ في ظِلِّها في الجنَّةِ)).
          ولأَبِي داودَ من حدِيثِ بُريدَةَ مرفُوعاً: ((في الإِنسَانِ ثلاثُمائةٍ وسِتُّونَ مفصَلاً، فعلَيهِ أن يتَصدَّقَ عن كُلِّ مِفصَلٍ بصَدَقةٍ)) قالُوا: فمَن يطِيقُ ذلكَ؟ قالَ: ((النُّخَاعةُ في المسجدِ يدفِنُها، والشَّيءُ يُنحِّيهِ عن الطَّريقِ)) الحديث.
          ولابنِ ماجَه من حديثِ أبِي برزَةَ: قُلتُ: يا رسُولَ الله دُلَّنِي على عَملٍ أنتَفِعُ بهِ؟ قال: ((اعزِلِ الأَذَى عن طرِيقِ المسلمِينَ)) ولابنِ عبدِ البرِّ من حدِيثِ مالِكِ بن يزِيدَ عن أبيهِ عن أبي ذرٍّ مرفُوعاً: ((إمَاطَتُكَ الحَجرَ والشَّوكَ والعَظمَ عن الطَّريقِ صدقَةٌ)) انتهى.
          قال ابنُ بطَّالٍ: ووَجهُ كونِ إماطَةِ الأَذَى صدَقةٌ أنَّه تسبَّبٌ إلى سَلامةِ من يمُرُّ بهِ منَ الأَذَى، وكأنَّهُ تصدَّقَ عليهِ بذلكَ فحصَلَ لهُ أجرُ الصَّدقَةِ، وقد جعَلَ عليهِ السَّلامُ الإمسَاكَ عن الشَّرِّ صدَقةً على النَّفسِ قال: ((وفِي إمَاطَةِ الأذَى وكلِّ ما أشبهَهُ)) حَثٌّ على الاستكثَارِ منَ الخَيرِ وأن لا يستقِلَّ منه شَيئاً، وقَد قالَ علَيهِ / السَّلامُ لأبِي تمِيمَةَ الجُهنيِّ: ((لا تحقِرَنَّ منَ المعرُوفِ شيئاً، ولو أَن تضَعَ مِن دَلوِكَ في إنَاءِ المستَسْقِي)) انتهى.
          ومِثلهُ في ابنِ الملقِّنِ لكنَّهُ قال: أبُو تميمَةَ الجُهنيُّ تابعيٌّ، فليَتدبَّر.