الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب نصر المظلوم

          ░5▒ (بابُ نَصْرِ الْمَظْلُومِ) أي: بابُ بيانِ طلبِ نصرِكَ المظلومَ، فهو من إضافةِ المصدرِ إلى مفعولِه بعد حذفِ فاعلِه، كقوله تعالى: / {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت:48].
          قال في ((الفتح)): هو فرضُ كفايةٍ، وهو عامٌّ في المظلومين، وكذلك في النَّاصرين بناءً على أنَّ فرضَ الكفايةِ مخاطَبٌ به الجميعُ، وهو الرَّاجحُ، ويتعيَّنُ أحياناً على مَنْ له القُدرةُ عليه وحدَه إذا لم يترتَّبْ على إنكارِه مفسَدةٌ أشدُّ من مفسَدةِ المنكَرِ، فلو علِمَ أو غلَبَ على ظنِّه أنَّهُ لا يُفيده، سقطَ الوجوبُ وبقيَ الاستحبابُ بالشَّرطِ المذكورِ، فلو تساوتِ المفسدتانِ تخيَّرَ، قال: وشرطُ النَّاصرِ أن يكونَ عالماً بكونِ الفعلِ ظُلماً، ويقعُ النَّصرُ تارةً مع وقوعِ الظُّلمِ والتَّلبُّسِ به، وهو حينئذٍ حقيقةٌ، وقد يقَعُ النَّصرُ قبل وقوعِه؛ كمَنْ أنقَذَ إنساناً من يدِ إنسانٍ طالبَه بمالٍ ظُلماً وهدَّدَه إن لم يبذُلْه، وقد يقَعُ بعده، وهو كثيرٌ، انتهى.
          وأقولُ: ما ذكرهُ من أنَّ نصر المظلوم فرض كفايةٍ على الإطلاق يوافقُ ظاهر كلام الدَّاودي المذكورِ في الباب قبله، وكذا قولُ ابن بطَّال هنا: نصرُ المؤمن فرضٌ على المؤمنين على الكفاية، ويتعيَّنُ فرضُ ذلك على السُّلطان، ثمَّ على كلِّ من له قدرةٌ على نصره، انتهى ملخَّصاً.
          لكنَّه لا يوافِقُ ما رجَّحَه فقهاؤنا في الفروعِ من أنَّه لا يجبُ أن يدفَعَ مَن صالَ على مالِ غيرِه أو نفسِه، كما لا يجبُ لو صالَ على نفسِه أو مالِه، لكن بشرطِ أن يكونَ الصَّائلُ محتَرَماً وغيرَ بهيمةٍ وعلى غيرِ نحوِ بضعٍ، وإلا فيجبُ اتِّفاقاً إن لم يخَفْ على نحوِ نفسِه أو عُضوِه، بل يُسنُّ له الاستِسلامُ؛ للخبرِ الصَّحيحِ: ((كن خيرَ ابنَي آدمَ، كُن عبدَ الله المقتولَ، ولا تكُن عبدَ الله القاتلَ)) نعم، لم يثبُتْ: ((كُنْ عبدَ الله...)) إلخ، بهذا اللفظِ.
          ومن ثمَّ استَسلمَ عثمانُ بنُ عفَّانَ ☺، وقال لأرِقَّائه _وكانوا أربعَمِائةٍ_: مَن ألقى سلاحَه فهو حرٌّ.
          وأمَّا قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فمَحلُّه في غيرِ قتلٍ يُؤدِّي إلى الشَّهادةِ من غيرِ ذلٍّ دينيٍّ، فهذا الذي صيلَ عليه مظلومٌ ولا يجبُ نصرُه، نعم، قيل بأنَّه يجبُ الدَّفعُ إذا كانَ آدميًّا محتَرَماً ولم يخشَ الدَّافعُ على نفسِه؛ لأنَّ الإنسانَ له الإيثارُ بحقِّ نفسِه دونَ حقِّ غيرِه، واختارَه جمعٌ؛ لخبرِ أحمدَ: ((مَن أُذلَّ عنده مسلمٌ فلم ينصُرْه وهو يقدِرُ أن ينصُرَه، أذلَّه اللهُ على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ))، فعلى هذا القيلِ يجري ما قاله، لكن في بعض الصُّورِ؛ وهو الآدميُّ لا المالُ، وهو قد أطلَقَ، وما ذكرَه من أنَّ فرضَ الكفايةِ مخاطَبٌ به الجميعُ على الرَّاجحِ هو مذهبُ الجمهورِ والتَّقيِّ السُّبكيِّ، ورجَّحَ ولدُه التاجُ كالإمامِ الرازي أنَّ المخاطَبَ به البعضُ على الإبهامِ، كما نبَّهَ على ذلك في ((جمعِ الجوامعِ)) مع فروعٍ أُخرَ.