الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب عفو المظلوم

          ░7▒ (باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ) أي: بيانُ ندبِ عفوِه عمَّن ظلَمَه (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) أي: في سورةِ النِّساءِ ({إِنْ تُبْدُوا خَيْراً}) أي: تُظهِروا بِرًّا وطاعةً لله تعالى، مُطلَقاً أو بدَلاً عن السُّوءِ لمَن أسداه إليكم، وقال الثعلبيُّ: الخيرُ هنا المالُ، وقيل: الحسَنةُ ({أَوْ تُخْفُوهُ}) أي: الخيرَ بأن لا تُظهِروه للنَّاسِ ({أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}) أي: إساءةِ مَنْ أساءَ إليكم، فإنَّ ذلك مما يقرِّبُكم إلى اللهِ تعالى ويُجزِلُ ثوابَكم لدَيه، فإنَّ من صفاتِه تعالى أن يعفوَ عن عبادِه مع قُدرتِه على عقابِهم.
          فلهذا قال: ({فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}) وقال البيضاويُّ: وذِكرُ إبداءِ الخيرِ وإخفائِهِ تسبيبٌ له، ولذلك رتَّبَ عليه قولَه: {فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيراً} أي: يُكثِرُ العفوَ عن العُصَاةِ مع كمالِ قدرتِه على الانتقامِ، فأنتم أَولى بذلك، وهو حثٌّ للمظلومِ على العفوِ بعدما رخَّص له في الانتِصارِ حَمْلاً على مكارمِ الأخلاقِ، انتهى.
          ولهذا وردَ في الأثرِ أنَّ حمَلةَ العرشِ يقولُ بعضُهم في تسبيحِهم لله تعالى: سبحانَك على حِلمِك بعد عِلمِك، وبعضٌ آخرُ منهم يقولُ: سبحانَك على عفوِكَ بعد قدرَتِك، كذا في العينيِّ وعبارةِ ((المواهبِ اللَّدُنيِّةِ))، وحمَلةُ العرشِ ثمانيةٌ يتَجاوَبونَ بصوتٍ حسَنٍ رَخيمٍ، تقولُ أربعةٌ منهم: سبحانَكَ وبحمدِكَ على حِلمِك بعد عِلمِك، وتقولُ أربعةٌ: سبحانَك وبحمدِكَ على عَفوِك بعد قدرتِك.
          ({وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا...}) الآياتِ / السِّتَّةَ المتواليةَ في سورةِ: {حَم عسق}، و{سَيِّئَةٌ} الثانيةُ مرفوعةٌ خبرُ: {وجَزَاءُ}، و{مِثْلُهَا} نعتٌ لها؛ لأنَّه لا يتعرَّفُ بالإضافةِ؛ لتوغُّلِه في الإبهامِ، وسمَّى جزاءَ السيئةِ سيئةً؛ إمَّا للازدواجِ، أو لأنَّها تسوءُ مَن تنزِلُ به، والمرادُ: جزاءُ سيِّئةٍ فعلُ مثلِها فقط، فلا يجوزُ أكثرُ منها.
          وقال ابنُ الملقِّن: يريدُ به القِصاصَ في الجِراحاتِ المتماثِلةِ، فإذا قال: أخزاهُ الله، أو لعنَه اللهُ، قابَلَه بمثلِه، ولا يقابلُ القذفَ بالقَذفِ، ولا الكذبَ بالكذبِ، انتهى.
          وما ذكرَه من جوازِ لعنِه لمَن لعَنَه، ولا يجوزُ قَذفُه ولا سبُّه بما هو كذِبٌ، هو مقتضى كلامِ أئمَّتِنا، وعبارةُ التُّحفةِ لابنِ حجَرٍ: نعم، لمَنْ سبَّ أن يرُدَّ على سابِّه بقدْرِ سبِّه مما لا كذِبَ فيه ولا قذفَ، انتهت.
          وقال قتادةُ: هذا في القِصاصِ، وأمَّا مَن ظلَمَك، فلا يحِلُّ لك أن تظلِمَه، ورويَ عن الحسَنِ أنَّه قال: رخِّصَ له إذا لُعِنَ لعَنَ، وإذا سُبَّ سَبَّ ما لم يكُنْ حدًّا أو كلِمةً لا تصلُحُ، انتهى.
          وفي ((الفتح)): روى ابنُ أبي حاتمٍ عن السُّدِّيِّ في قولِه تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] قال: إذا شتَمَكَ شتَمتَه بمِثلِها من غيرِ أن تعتديَ.
          ({فَمَنْ عَفَا}) أي: عن خصمِه ({وَأَصْلَحَ}) أي: بينه وبين عدوِّه ({فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}).
          قال البيضاويُّ: عِدةٌ مبهَمةٌ تدلُّ على عِظمِ الموعودِ.
          ({إِنَّهُ}) أي: اللهَ ({لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}) أي: المبتدئين بالسَّيِّئةِ والمتجاوِزينَ حدَّ الانتقامِ ({وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}) أي: بعدما ظُلمَ _بالبناء للمفعول_، قال البيضاويُّ: وقُرئَ به.
          ({فَأُولَئِكَ}) أي: المنتصرونَ بعد ظُلمِهم، وجمَعَ نظَراً لمعنى: {مَنْ} ({مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}) أي: ليس عليهم إثمٌ في المعاتَبةِ والمعاقبةِ ({إِنَّمَا السَّبِيلُ}) أي: الإثمُ، وجمعُه: سُبُلٌ _بضمتين، وقد تسكن الموحدة تخفيفاً_، والظَّاهرُ أنَّ إطلاقَ السَّبيلِ على الإثمِ مَجازٌ ({عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}) أي: يبتدئونهم بالإضرارِ، ويطلُبون ما لا يستحِقُّونَه تجبُّراً عليهم.
          ({وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ}) أي: يتكبَّرون فيها ويُفسدون ويعملون ({بِغَيْرِ الْحَقِّ}) أي: بالمعاصي ({أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}) أي: مؤلمٌ على ظُلمِهم وبغيهِم ({وَلَمَنْ صَبَرَ}) بفتح لام: (({وَلَمَنْ})) على أنَّها لامُ الابتداءِ؛ أي: والذي صبَرَ على الأذى ({وَغَفَرَ}) أي: تجاوَزَ عمَّن ظلَمَه ولم ينتصِرْ منه، وفوَّضَ أمرَه إلى اللهِ تعالى.
          وجملةُ: ({إِنَّ ذَلِكَ}) أي: الصَّبرَ على الأذى ({لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}) خبرُ: {مِن} والعائدُ إليها محذوفٌ، ولذا قال البيضاويُّ: أي: إنَّ ذلك منه، فحُذفَ كما حُذفَ من قولِهم: السَّمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ.
          قال في ((الكشاف)): ويُحكى أنَّ رجلاً سَبَّ رجُلاً في مجلسِ الحسَنِ، وكان المسبوبُ يكظِمُ ويعرَقُ، فيمسَحُ العرَقَ، ثمَّ قامَ فتلا هذه الآيةَ، فقال الحسنُ: عقَلَها واللهِ وفهِمَها إذ ضيَّعَها الجاهلون، قال: وقالوا: العفوُ مندوبٌ إليه، ثمَّ قد ينعكِسُ الأمرُ في بعضِ الأحوالِ، فيرجِعُ تركُ العفوِ مندوباً إليه، وذلك إذا احتيجَ إلى كفِّ زيادةِ البغيِ، وقطعِ مادَّةِ الأذى، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: وقيل: المستحَبُّ العفوُ، بدليلِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} والصَّحيحُ أنَّه لا كراهةَ فيه وأنه مخيَّرٌ، نعم، الأفضلُ العفوُ من غيرِ كراهةٍ في الآخَرِ، ومَن كانت له زَلَّةٌ وعَلمَ أنَّه لا يعودُ إلى ظُلمِه، كان الصَّبرُ أَولى، ومَن كان متَمادياً على جراءَتِه، فالصَّبرُ فيه ليس بمحمودٍ.
          ({وَمَنْ يُضْلِلِ}) قال في ((الكشَّافِ)) وتبِعَه البيضاويُّ: أي: ومَنْ يخذُلِ ({اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ}) أي: فليس له من ناصرٍ يتَولَّاه من بعدِ خِذلانِ اللهِ إيَّاه، وقال البغويُّ: أي فما له من أحدٍ يَلي هِدايتَه بعد إضلالِ اللهِ إيَّاه، / ولا يمنَعُه من عذابِ الله.
          ({وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ}) قال البيضاويُّ: أي: يرَونَه، فذكرَه بلفظِ الماضي تحقيقاً ({يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}) أي: هل من طريقٍ إلى رَجعةٍ إلى الدُّنيا لنتوبَ؟ وهذه الآياتُ كلُّها ثابتةٌ للأكثرِ، ووقع في روايةِ أبي ذرٍّ: <{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}> إلى قولِه: <{إِلَى مَرَدٍّ مِن سَبِيلٍ}>.
          ولم يذكُرِ المصنِّفُ في هذا البابِ أيضاً حديثاً، ولعله لم يجِدْه على شَرطِه، وكأنه أشارَ بالترجمةِ إلى ما أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ عن أبي هريرةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قالَ لأبي بكرٍ: ((ما من عبدٍ ظُلِمَ مَظلَمةً فعَفا عنها إلَّا أعزَّ اللهُ بها نصْرَه))، قاله في ((الفتح)).
          وقال البغويُّ: قال الحسنُ: إذا كان يومُ القيامةِ نادى مُنادٍ: مَن كان له على اللهِ أجرٌ فليقُم، فلا يقومُ إلا مَن عفا عن ظالمِه، ثمَّ قرأ الآيةَ.
          وقال في ((الكشاف)): وعن النبيِّ صلعم: ((إذا كان يومُ القيامةِ نادى مُنادٍ: مَن كان له على اللهِ أجرٌ فليقُمْ، قال: فيقومُ خلقٌ، فيقالُ لهم: ما أجرُكم على اللهِ؟ فيقولون: نحنُ الذين عفَونا عمَّن ظلَمَنا، فيُقالُ لهم: ادخُلُوا الجنَّةَ بإذنِ الله تعالى))، انتهى.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: وقد رُويَ عن أحمدَ بنِ حَنبلٍ ☼ أنَّه قال: جعلتُ المعتصِمَ باللهِ في حِلٍّ من ضربي ومِحنَتي؛ لأنَّه حدَّثَني هاشمُ بنُ القاسمِ عن ابنِ المبارَكِ أنَّه قال: حدَّثني مَن سمِعَ الحسَنَ البَصريَّ يقولُ: إذا جثَتِ الأممُ بين يدَي ربِّ العالمين يومَ القيامةِ، نوديَ: ليقُمْ مَن أجرُه على اللهِ، فلا يقومُ إلَّا مَن عَفا في الدُّنيا، ويصدِّقُ هذا الحديثَ قولُه تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} قال: وكان أحمدُ بنُ حَنبلٍ يقولُ: ما أحبُّ أن يعذِّبَ اللهُ بسببي أحداً، انتهى.
          وقولُ الشافعيِّ ☼ يميلُ إلى ذلك، فإنه قال:
مَن نالَ منِّي أو علِقتُ بذِمَّتِهْ                     أبرأتُه للهِ شاكِرَ نعمتِهْ
أتَرى أعوِّقُ مسلِماً يومَ الجزاءْ                     أو أن أسُوءَ محمداً في أمَّتِه
واللهِ ما طالَبتُ عبداً مؤمناً                     ولئن طلَبتُ رجَوتُ واسِعَ رحمتِه
          اللهمَّ إني أسألُه سبحانهُ وتعالى بمحمَّدٍ وآلِهِ أن يعفوَ عنِّي وعن أحبَّائي بفضْلِه وكرَمِهِ، آمين.