الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: الظلم ظلمات يوم القيامة

          ░8▒ (بابٌ) بالتنوين (الظُّلْمُ) أي: في الدُّنيا (ظُلُمَاتٌ يوم الْقِيَامَةِ) أي: بأن تنشَأَ عنه الظُّلماتُ يومَ القيامةِ، أو بأن يصوَّرَ كذلك لصاحبِه، وهو شاملٌ لظُلمِ النَّفسِ والغيرِ، وإن كان كلامُ ابنِ الملقِّنِ نقلاً عن ابنِ الجوزيِّ يقتضي اختصاصَهُ هنا ببعضِ أفرادِ الثَّاني، حيثُ قال: الظُّلمُ يشتمِلُ على معصيَتَينِ؛ أخذِ مالِ الغيرِ بغيرِ حقٍّ، ومبارزةِ الأمرِ بالقولِ بالمخالَفةِ، وهذه أدهى؛ لأنَّه لا يَكادُ يقعُ الظلمُ إلا للضَّعيفِ الذي لا ناصرَ له غيرُ اللهِ تعالى، انتهى.
          و((الظُّلمُ)) بضم الظاء، وضعُ الشَّيءِ في غيرِ موضعِه، والمصدرُ الحقيقيُّ: الظَّلمُ _بالفتح_، قاله في ((القاموس)).
          وقال العينيُّ: الظُّلمُ خِلافُ النُّورِ، وضمُّ اللامِ لغةٌ فيه، ويقالُ: أظلَمَ الليلُ، والظَّلامُ: أولُ الليلِ، والظَّلماءُ: الظُّلمةُ، وربَّما وُصِفَ بها، يقالُ: ليلةٌ ظَلماءُ؛ أي: مُظلِمةٌ، وظَلِمَ _بالكسر_ وأظلَمَ بمعنًى، وعن الفرَّاءِ: أظلَمَ القَومُ: دخَلُوا في الظَّلامِ، قال تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} انتهى.
          وأقول: هذا معنًى آخرُ للظُّلمِ، وهو غيرُ مُرادٍ هنا كما لا يخفى، لكن كونُ لفظِ الظُّلمِ المجرَّدِ من التاءِ والألفِ الممدودةِ بمعنى خِلافِ النورِ لعله مَجازٌ، فتدبَّر.
          وفي ((القاموس)): الظُّلُمةُ _بالضم / وبضمتين_، والظَّلماءُ والظَّلامُ: ذهابُ النُّورِ، وليلةٌ ظَلْمةٌ: على طَرحِ الزَّائدِ، وظَلماءُ شديدةُ الظَّلامِ، وليلةٌ ظَلْماءُ: شاذٌّ، انتهى، فتدبَّر.
          وقال ابنُ الملقِّن: قالَ القزَّازُ: الظُّلمُ هنا الشِّركُ؛ أي: هو عليهم ظَلامٌ وعمًى، قال: ومن هنا زعَمَ بعضُ اللُّغويِّينَ أنَّ اشتِقاقَ الظُّلمِ من الظَّلامِ كأنَّ فاعلَهُ في ظَلامٍ عن الحقِّ، قال: والَّذي عليه الأكثرون أنَّه وضعُ الشَّيءِ في غَيرِ موضِعِه، انتهى.
          قال القاضي عياضٌ كما نقَلَه عنه الكُفيريُّ: قوله: ((ظُلُماتٌ)) على ظاهِرِه، فيكونُ الظُّلمُ ظُلُماتٍ على صاحبِه، لا يهتدي يومَ القيامةِ بسببِ ظُلمِه في الدُّنيا، ويحتمِلُ أنَّها هنا الشَّدائدُ، وبه فُسِّر قولُه تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:63] أي: شدائدِهما، قال: ويحتمِلُ أنَّها عبارةٌ عن الأنكالِ والعقوباتِ، انتهى.
          وظلمات خبر الظلم، وفي لامها الضم والفتح والسكون، ويوم القيامةِ ظرفٌ لها.
          وقال المهلَّبُ: هذه الظُّلماتُ لا يعرفُ كيف هيَ، أهيَ من عمى القلب أو هي ظلماتٌ على البصرِ؟ قال: والذي يدلُّ عليه القرآن أنَّها ظلماتٌ على البصرِ حتَّى لا يهتَدِي سبيلاً، قالَ اللهُ تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد:13] الآية، فدلَّتْ هذهِ الآيةُ أنَّهم حين مُنِعوا النُّور بقوا في ظلمَةٍ غشيَتْ أبصَارَهُم كما كانَتْ أبصَارهم في الدُّنيا عليها غِشَاوةٌ من الكفْرِ، وقال اللهُ تعالى في المؤمنين: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] فأثابَ اللهُ المؤمنين بلزومِ نورِ الإيمانِ لهم ولذَّذهُم بالنَّظرِ إليه، وقوَّى به أبصَارهُم وعاقَبَ الكفَّارَ والمنافقينَ بأنْ أظلمَ عليهم ومنعَهُم لذَّةَ النَّظرِ إليه تعالى، فإذا سعَى المتَّقونَ بنُورِهِم الذي جعلَ لهم بسبَبِ التَّقوى اكتنفَتْ ظُلمات الظُّلم الظَّالم فمنعتْهُ النَّظر ولم ينفعهُ ظلمهُ شيئاً.
          بل قال ابنُ مسعودٍ ☺: يُؤتى بالظَّلمَةِ فيوضَعُون في تابوتٍ من نارٍ ثمَّ يزجُّون فيها، ومثل هذا لا يقالُ من قِبَل الرأي فله حكمُ المرفوعِ.