الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله

          ░42▒ (باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) أورد المصنف هذا الحديث المعلق ترجمة، ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب، لكون راوية سهيل بن أبي صالح أشهر طريق له عن تميم الداري.
          وقال ابن معين: لا يحتج به ونسبه بعضهم لسوء حفظه أخيراً لتغيره بموت أخيه وموجدته عليه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة، وأخرجه مسلم في الإيمان من طريق سفيان أنه قال: قلت: لسهيل بن أبي صالح أن عمراً حدثنا عن القعقاع عن أبيك بحديث ورجوت أن تسقط عني رجلاً؛ أي: فتحدثني به عن أبيك فقال: سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقاً له بالشام وهو عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري، بلفظ أن النبي صلعم قال: (الدين النصيحة ثلاثاً) قلنا: لمن؟ قال: (لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وليس لتميم في ((صحيح مسلم)) سواه ولا روى البخاري في ((صحيحه)) عنه شيئاً أصلاً سوى هذا المعلق.
          وروى هذا الحديث أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي عن تميم. والترمذي والنسائي عن أبي هريرة وأحمد: عن ابن عباس بلفظ: (إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
          اعلم أن جملة: (الدين النصيحة) من المبتدأ والخبر مقول قول النبي صلعم المضاف إليه باب الواقع خبر مبتدأ محذوف، وجعلها خبراً عن قول النبي صلعم لرفعه بالابتداء، كما قاله القسطلاني خلاف الظاهر فتأمل، و(الدين) تقدَّم معناه غير مرَّة، و(النصيحة) مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع شبهوا تخليص القول الناصح من الغش بتخليص العسل من خلطه، أو نصح الرجل ثوبه إذا خاطه بالمنصحة وهي الإبرة معها الناصح، وهو الخيط، فشبهوا / فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح بما يسده من خلل الثوب، ومنه التوبة النصوح كأن الذنوب تمزق الدين والتوبة تخيطه، يقال نصحه ونصح له ينصح نصحاً ونصوحاً ونَصاحة _بالفتح والكسر_ قاله ابن سيده.
          وقال الجوهري: وهو باللام أفصح. وقال الأصمعي: الناصح: الخالص من كل شيء. وفي (الغريبين): نصحته صدقته.
          وقال الخطَّابي: النصيحة: كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح وهو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام.
          ويقال: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة منها ومثلها الفلاح ومعنى هذا الحديث عماد الدين وقوامه النصيحة لمن ذكر فهو محمول على المبالغة؛ أي: معظمه النصيحة، كما قيل به في قوله صلعم: (الحج عرفة) ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص، فليس من الدين في شيء.
          ولذا قال النووي راداً على من قال: إنه ربع الدين بل هو وحده محصل لغرض الدين لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها، فالنصيحة لله ╡: وصفه بما هو له أهل والخضوع بما حوله ظاهراً وباطناً والرغبة في محابه بفعل طاعته والرهبة من مساخطه بترك معصيته والجهادُ في رد العاصين إليه.
          وروى سفيان عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي ثمامة صاحب علي ☺ أنه قال: قال الحواريون لعيسى ◙: يا روح الله من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حق الله على حق الناس، والنصيحة لكتابه تعالى، تعلمه وتعليمه وإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذبُّ تحريف المبطلين عنه والنصيحة لرسوله تعظيمُه ونصره حياً وميتاً وإحياءُ سنته بتعلمها والاقتداء به في أقواله وأفعاله وصحبته ومحبة اتباعه والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم ونشر مناقبهم وتحسين الظن بهم، والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
          وفي الحديث كما قال ابن بطَّال: أن النصيحة تسمى ديناً وإسلاماً، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، هي فرض كفاية يجزئ فيه من قام به، ويسقط الحرج عن الباقين، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه، انتهى.
          لكن في ((شرح الأربعين)) لابن حجر: أن شرط وجوب النصيحة أن يأمن من لحوق ضرر له في نفسه أو نحو ماله لا العلم بقبول نصحه لما صرحوا به بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن علم أنه لا يسمع له، انتهى. وعبارة الخطابي في شرحه أعم فلتراجع.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) ولأبي الوقت: <╡>، ولأبي ذر: <وقول الله> في براءة ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91]) الظرف متعلق بصدر الآية، وهي: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91]؛ أي: بالإيمان والطاعة في السر والعلانية، أو بما قدروا عليه قولاً أو فعلاً يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح.