الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: بني الإسلام على خمس

          ░1▒ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ): عبر بالباب؛ لاندراجه تحت كتاب الإيمان، وأورد الحديث معلقاً؛ لأنه اعتبره ترجمة، وسيأتي في آخر الباب موصولاً، وفي اليونينية وفرعها: (كتاب الإيمان وقول النبي صلعم)، وفي نسخ: (كتاب الإيمان. باب الإيمان وقول النبي صلعم)، وفي رواية الأصيلي: <وقول النبي صلعم> بإسقاط <باب> وعطف قول برفعه على كتاب الإيمان، وهذه الرواية كالأولين أولى من المتوسطة؛ لإغناء كتاب الإيمان عنها، فليس لها كبير فائدة.
          قال في ((الفتح)): واقتصاره على طرفه من تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد: باب هذا الحديث.
          واعترضه العيني فقال: لا تسمية هنا ولا إطلاق اسم بعض الشيء على الشيء، وإنما البخاري لما أراد أن يبوب على هذا الحديث باباً، ذكر أولاً بعضه؛ لأجل التبويب، واكتفى عن ذكر كله عند الباب بذكره إياه مسنداً فيما بعد، فافهم.
          وأقول: إذا كان مراد البخاري باب هذا الحديث، فيكون قطعاً مجازاً مرسلاً من باب تسمية الشيء باسم بعضه؛ لأنه لم يذكر جميع الحديث، فلا وجه للاعتراض.
          وتأمل قوله: وإنما البخاري لما أراد..إلخ، فإنه إن أراد أنه ذكر البعض في التبويب مع ملاحظة الباقي، فهو ما في ((الفتح)) وإن أراد أنه غير ملاحظ ومراعى للباقي، فلا نسلم ذلك؛ لأنه أراد بيان الجميع قطعاً، وإن أراد أنه من باب الاكتفاء على حد: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} [النحل:81]، فهو محتمل لكنه لا يمنع صحة ما في ((الفتح))، فليكن لكلام البخاري توجيهان.
          وفي قوله: (بني الإسلام على خمس): استعارة بالكناية وتخييل، أو ترشيح، ويجوز أن تكون الاستعارة تمثيلية أو تبعية، و(على) بمعنى من أو للاستعلاء المجازي.
          و(الإسلام): لغةً: الانقياد والخضوع مطلقاً، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام، والإذعان لها، وهو حقيقة التصديق، فيلزم من الإسلام التصديق.
          وشرعاً: الانقياد إلى الأعمال الظاهرة الشرعية، أو هو نفس الأعمال الشرعية لما في حديث جبريل الذي انفرد به مسلم: (الإسلام أن تشهد...إلخ) فالإسلام والإيمان متغايران مفهوماً، وإن اتحدا ما صدقا بحسب الشرع، فلا يصح فيه أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، وبالعكس ويدل لذلك نحو قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36]، وسيأتي تحقيق القول في ذلك عند الكلام على بقية الحديث.
          (وَهُوَ): الضمير راجع إلى (الإيمان) المبوب عليه، قاله الزركشي وكثيرون منهم: التيمي فإنه قال: ضمير / (هو) راجع إلى (الإيمان)، قالت الأئمة: الإيمان يزيد وينقص، ولم يقولوا: الإسلام يزيد وينقص.
          وقال الكرماني وتبعة البرماوي: هو راجع إلى (الإيمان) أو إلى الإسلام إن قلنا: أنها بمعنى واحد وإليه ميل البخاري. انتهى.
          ويوافقه قول ((المصابيح)) راداً على الزركشي.
          قلت: ليس هذا بظاهر، فإن مذهب البخاري أن معناهما احد، ولولا ذلك لما حسن منه إدخال هذا الحديث في كتاب الإيمان في معرض الاستدلال به على قبوله الزيادة والنقص.
          وكذلك جزم العيني باتحادهما عند البخاري.
          وقال في ((منحة الباري)): وهو _أي: كل من الإيمان والإسلام_ عند البخاري: قول وفعل يزيد وينقص.
          لكن رد جميع ذلك ابن كمال باشا فقال: والظاهر من سياق الكلام في هذا المقام أن المصنف من الذاهبين إلى مغايرة الإيمان للإسلام حيث عطف (وقول النبي صلعم) على (الإيمان)، فإنه ظاهر في جعل الإسلام شريكاً للإيمان في عنوان الباب، وأيضاً قوله ◙: (بني الإسلام على خمس) صريح في خروج التصديق من الإسلام مع أنه لابد منه في الإيمان، ففيه دلالة ظاهرة على مغايرتهما، فذكر القول المذكور في هذا المقام كالتنصيص منه على القول بالمغايرة بينهما، وهذا كله ظاهر وإن خفي على من قال: ميل البخاري إلى أن الإيمان والإسلام واحد، ولا وجه لإرادة الإسلام بالضمير؛ لأن كونه قولاً وفعلاً معلوم من عبارة الحديث المذكور، ولأنه حينئذ لا ينتظم ذكر الآيات المذكورة في مقام الاستشهاد؛ لأنها تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، لا على زيادة الإسلام ونقصانه، فلا مساغ لبناء الكلام على اتحادهما لما عرفت أن مختار المصنف خلاف ذلك، وبهذا تبين أن تجويز رجوع الضمير المذكور إلى الإسلام من قصور التأمل في الكلام. انتهى.
          وسبقه إلى تغايرهما الزركشي فقال: (وهو قول) هذا من كلام البخاري، وهو راجع إلى (الإيمان) المبوب عليه، لا للإسلام المذكور في الحديث، فإنه سيأتي منه تغايرهما في باب سؤال جبريل ◙ عن الإيمان والإسلام.
          (قَوْلٌ): قيل: هو لغة: مطلق اللفظ، والراجح: أنه أخص منه، فقيل: هو الموضوع لمعنى مطلقاً، وقيل: المركب مطلقاً، وقيل: المفيد، وفي اصطلاح النحويين: هو اللفظ الموضوع لمعنى، والمراد هنا: نطق اللسان بالشهادتين (وَفِعْلٌ): أي: بالجوارح وبالجنان، فأطلق على اعتقاد القلب فعلاً، قاله في ((المصابيح)).
          ولأبي ذر عن الكشميهني: <وعمل> بدل فعل، وهو أيضاً أعم من عمل القلب والجوارح، وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك فقوله: (وهو قول...إلخ) ليس من كلام النبي صلعم، بل من كلام البخاري كما صرح بذلك البرماوي.
          واقتضاه كلام ((فتح الباري)) حيث قال: ووهم ابن التين، فظن أن قوله: (وهو...إلخ) مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف.
          وقال الكرماني: فإن قلت: هو قول وفعل واعتقاد بالقلب، بل الاعتقاد بالقلب هو الأصل، فلمَ لم يذكره؟
          قلت: لا نزاع في أن الاعتقاد لا بد منه، والبحث في أن القول باللسان والفعل بالجوارح هل هما منه أم لا؟!
          فلذلك ذكر ما هو المتنازع فيه، أو نقول: الفعل أعم من فعل الجوارح، فيتناول فعل القلب، لكنه يتوجه أن يقال: فلا حاجة إلى ذكر القول؛ لأنه فعل اللسان. انتهى.
          ورده العيني أيضاً: بأن الاعتقاد من منزلة الانفعال، أو الفعل، فيه تأمل. انتهى.
          وقال ابن بطال: التصديق: هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمناً مطلقاً.
          وهذا المعنى أراد البخاري إثباته وعليه بوب الأبواب فقال: باب أمور الإيمان باب: الجهاد من الإيمان ونحوه، وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم: الإيمان قول بلا عمل.
          وجملة: (وَيَزِيدُ): معطوف على قول الواقع خبراً عن (هو)؛ أي: يزيد بالطاعات (وَيَنْقُصُ): أي: بالمعاصي، / وأخرجه الحاكم في (ترجمة الشافعي) عن الربيع أنه قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
          وقال سفيان بن عيينة: الإيمان قول وفعل يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل: ينقص، فغضب سفيان وقال: اسكت يا صبي، بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
          وقال البرماوي تبعاً للكرماني: واعلم أن زيادة الإيمان ونقصه: إما باعتبار دخول القول والفعل فيه، أو باعتبار القوة والضعف، أو باعتبار الإجمال والتفصيل، أو باعتبار تعدد المؤمن به، أو غير ذلك مما سيأتي.
          وقال في ((فتح الباري)): والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما المقام الأول: فمراد من أدخله في تعريف الإيمان، ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك: أن الأعمال تشترط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي.
          والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد.
          والفارق بينهم وبين السلف: أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا: فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر به أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره، كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته، وأثبت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
          وأما المقام الثاني: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا: متى قيل ذلك كان شكاً.
          قال النووي: والأظهر المختار: أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبهة.
          ويؤيده: أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
          وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه (تعظيم قدر الصلاة) عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في (مصنفه) عن سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وابن جريج، ومعمر، وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم، وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في كتاب (السنة)، عن الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة.
          وروى بسنده الصحيح عن البخاري أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
          وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمعٍ من الصحابة والتابعين، وكل من يدور الإجماع عليه من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة.
          وقال أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة الشافعي: إن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]. انتهى.
          وأقول: من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، ومعاذ، وأبو الدرداء، وابن عباس، وعمارة، وأبو هريرة، وحذيفة، وعائشة.
          ومن التابعين: كعب الأحبار، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، وطاووس.
          وقال الكرماني: قال ابن بطال: مذهب جميع أهل السنة من سلف الأمة، وخالفها: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، / فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والموالاة من المؤمنين: هو الإتيان بالأمور الثلاثة: التصديق والإقرار والعمل، ولا خلاف أنه لو أقر وعمل بلا اعتقاد، أو اعتقد وعمل وجحد بلسانه لا يكون مؤمناً، فكذا إذا أقر واعتقد ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق.
          وأقول: لعل مراده كمال الإيمان لا أصل الإيمان نفسه، وإلا لزم أن كل من ترك فرضاً من الفروض لا يكون مؤمناً، وهو مشكل مع أنه قد ثبت أن كل من أقر باللسان سماه رسول الله صلعم مؤمناً على الإطلاق.
          واعلم: أن تحقيق هذه المسائل وبيان النسبة أيضاً بين الإيمان والإسلام بالمساواة أو بالعموم والخصوص موقوف على تفسير الإيمان.
          وذكر في الكتب الكلامية له تفاسير فقال المتأخرون: هو تصديق الرسول بما علم مجيئه به ضرورة، والحنفية: التصديق والإقرار، والكرامية: الإقرار، وبعض المعتزلة: الأعمال، والسلف: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان.
          فهذه أقوال خمسة الثلاث منها بسيطة، وواحد مركب ثنائي، والخامس مركب ثلاثي، ووجه الحصر: إما أنه بسيط أو لا، والبسيط: إما اعتقادي أو قولي أو عملي، وغير البسيط: إما ثنائي وإما ثلاثي، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله.
          وأما عندنا: فالإيمان هو بالكلمة، فإذا قالها: حكمنا بإيمانه اتفاقاً بلا خلاف، ثم لا يعقل أن النزاع في نفس الإيمان، وأما الكمال فإنه لابد فيه من الثلاث إجماعاً، وإذا تحققت هذه الدقائق انفتح عليك المغالق إن شاء الله تعالى. انتهى.
          زاد غيره أقوالاً أخر: الطاعات مطلقاً، ونسب: للخوارج، والعلاف، وعبد الجبار، وذهب الجبائي وابنه، وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة، وذهب الباقون من المعتزلة إلى أنه العمل والنطق والاعتقاد، والفرق بينهم وبين السلف: أن الأعمال عندهم شرط في الكمال، والمعتزلة جعلوه شرطاً في الصحة. انتهى، فليتأمل.
          ويمكن إرجاعها لبعض ما تقدم، فافهم.
          وأما توقف الإمام مالك عن القول بنقصانه: فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج.
          وفي ((المصابيح)): فإن قيل: كيف لا ينتفي الكل بانتفاء الجزء؟!
          فالجواب: أن المراد أن الإيمان يطلق على أساس النجاة، وعلى الكامل المنجي بلا خلاف، وأنكر قبول الإيمان الزيادة والنقصان: جماعات من العلماء، منهم: الإمام أبو حنيفة وأتباعه، وإمام الحرمين من الأشاعرة وآخرون.
          قال النووي: وعليه أكثر المتكلمين.
          قال الفخر الرازي وغيره: والخلاف مبني على أن الطاعة إن أخذت في مفهومه قبلها، وإلا فلا؛ لأنه اسم للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعة ولا معصية إليه، ورد: بأن القائلين بهما مصرحون بأنه مجرد التصديق، وحملهم على ذلك ظواهر الكتاب والسنة.
          وأولها المانعون فقال أبو حنيفة ☼ كما ذكره السعد: أنهم كانوا _يعني من كان في عصر النبي صلعم_ آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص فيزيد إيمانهم بزيادة ما يجب الإيمان به. انتهى، فتأمله مع ما تقدم عن أبي حنيفة.
          وقال في ((المصابيح)): وأما باعتبار حقيقة التصديق، فلا يزيد ولا ينقص.
          نعم: هو قابل للشدة والضعف، وقد أطلق كثيرون أن نفس التصديق يزيد بتظاهر الأدلة وكثرة النظر، وينقص بفقد ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبهة، ولا يتزلزل إيمانهم، وهو إذا تأملته إنما يرجع إلى القوة والضعف. انتهى.
          وأقول: يقرب مما قاله الرازي، وإن كان المحققون على خلافِ ما نقله ابن الملقن، عن ابن عبد الله الأصبهاني حيث قال: وعبارة ابن الملقن في ((التوضيح)): قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني في ((شرح مسلم)): الإيمان لغةً: التصديق، فإن عني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق ليس مما يتجزئ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، والإيمان في الشرع: هو التصديق بالقلب، والعمل / بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص، وهذا مذهب أهل السنة، فالخلاف إذن إنما هو إذا صدق بقلبه، ولم يضم إليه العمل بموجب الإيمان هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟! انتهت.
          ثم استدل البخاري على جواز زيادة الإيمان ونقصانه بثمان آيات من القرآن المجيد على عد ما في براءة آية واحدة، وإلا فهي تسع.
          وفي ((منحة الباري)): ولا يخفى أن ذكر الآيات في باب زيادة الإيمان ونقصانه أنسب من ذكرها هنا مصرحة بالزيادة، ويلزم منها النقصان فإن كل ما يقبل الزيادة يقبل النقصان بالضرورة، فقال:
          (قَالَ): وللأصيلي: <وقال الله تعالى>: أي: في سورة الفتح ({لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفَتْحِ:4]): هذا تعليل لقوله تعالى: {الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4]؛ أي: أنزل الثبات والطمأنينة في قلوبهم، فلم تقلق نفوسهم، ولم تدحض أقدامهم.
          قال ابن عباس ☻: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في البقرة؛ أي: أنزل السكينة في قلوب المؤمنين؛ ليزدادوا يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله واليوم الآخر، فــ{مَّعَ إِيمَانِهِمْ}: المفعول الثاني.
          وقال في (الكشاف): أي: أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسب الصلح والأمن؛ ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة عقب القتال، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد صلعم من الشرائع؛ ليزدادوا إيماناً بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم وهو التوحيد.
          وعن ابن عباس ☻: أول ما أتاهم به النبي صلعم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، ثم الجهاد، حتى أكمل الله الأحكام، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم، أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله ولرسوله؛ ليزدادوا باعتقاد ذلك إيماناً إلى إيمانهم.
          وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم.
          وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق.
          وقال تعالى في سورة الكهف: ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكَهْفِ:13])؛ أي: زدنا أصحاب الكهف هداية وتثبيتاً وتوثيقاً.
          وقيل: زدناهم إيماناً وبصيرة، وسقطت هذه الآية في رواية ابن عساكر كما في اليونينية وفرعها، وقال تعالى في سورة مريم: ({وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مَرْيَمَ:76]) سقطت الواو من ({وَيَزِيدُ}) لابن عساكر، وزاد: <وقال> في رواية الأصيلي.
          وجملة: ({وَيَزِيدُ}): معطوفة _كما قال البيضاوي_ على الشرطية المحكية في قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ} [مريم:75] كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه الحياة الدنيا ليس لفضله أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمنين منها ليس لنقضه، بل؛ لأن الله أراد به ما هو خير وعوضه منه.
          وقيل: عطف على مقدر بعد {فَلْيَمْدُدْ}؛ لأنه في معنى الخبر، كأنه قيل: من كان في الضلالة يزيد الله في ضلاله بخذلانه ويزيد المهتدي هداية بتوفيقه.
          وقال البغوي: أي: إيماناً وإيقاناً على يقينهم.
          وقال الكرماني: ({هُدًى}): أي: دلالة موصلة إلى البغية وهو متعد والاهتداء لازم.
          وأقول: هذا بحسب ما هنا، وإلا فالصحيح أن الهداية عند أهل السنة لا تستلزم الإيصال خلافاً للمعتزلة.
          (وَقَالَ): أي: الله في سورة القتال، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: <وقوله>، وفي رواية: بإسقاطهما والابتداء بقوله: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [مُحَمَّدٍ:17]): أي: زادهم الله هدى بالتوفيق وإلهام، وقيل: ضمير ({زَادَهُمْ}) المستتر للرسول، أو لاستهزاء المنافقين ({وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ:17]): أي: أعانهم عليها أو آتاهم / جزاء تقواهم وقرئ: ▬وأعطاهم↨.
          وعن السدي: بين لهم ما يتقون.
          وقال تعالى في المدثر: ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31])، ({وَيَزْدَادَ}): بالنصب عطف على {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] الواقع علة؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31]؛ أي: إنا جعلنا عدة خزنة جهنم تسعة عشر؛ ليفتتن بها الكفار؛ أي: عدة من شأنها أن يفتتن بها الذين كفروا ويستيقن بها أهل الكتاب، وقيل: ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلعم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقاً لكتابهم، وليزداد المؤمنون بالإيمان بها، أو بتصديق أهل الكتاب لها.
          واختلف في المراد بالتسعة عشر: فقيل: تسعة عشر ملكاً، وقيل: صنفاً من الملائكة، وقيل: صفاً، وقيل: نفساً.
          وقوله تعالى في براءة: ({أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا}) برفع ({أَيُّكُمْ}) مبتدأ، وجملة ما بعدها خبر، وقرأ عبيد بن عمير: ▬أيَّكم↨ بالنصب على إضمار فعل يفسره ({زَادَتْهُ})، واسم الإشارة راجع إلى {سورة} في قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سورة فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ} [التوبة:124]؛ أي: فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيماناً إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين؟!
          تنبيه: لفظ (وقوله) بالرفع والجر كما في كثير من الأصول، فالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أو بالعكس، والجر عطف على المعنى؛ أي: لقول الله تعالى؛ أي: ({لِيَزْدَادُوا}...إلخ)، ولقوله تعالى: ({أَيُّكُمْ}...إلخ)، فافهم.
          ({فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124]): أي: بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة، وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم، وإسناد الزيادة فيها إلى السورة من قبيل المجاز العقلي، والحقيقة: نسبتها إلى الله تعالى، إذ لا مؤثر في الوجود إلا هو ╡.
          (وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ) في آل عمران {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173]) ضمير المخاطبين لأصحاب محمد صلعم، وضميرهم أولاً: للناس، ثانياً: المراد بهم أهل مكة وهم ثانياً لأصحاب محمد صلعم أيضاً، والضمير المستتر في {فَزَادَهُمْ} للمفعول، أو المصدر {قَالَ}، أو لفاعله أن أريد به نعيم، وكذا إن أريد به ركب عبد القيس.
          والمعنى: أن أصحاب محمد صلعم لم يلتفتوا إلى القول ولم يضعفوا، بل ثبت به يقينهم بالله، أو ازداد إيمانهم، فأظهروا نصرة الإسلام، وأخلصوا النية.
          قال البيضاوي: وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص.
          ويعضده قول ابن عمر: قلنا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟! قال: (نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار).
          وهذا ظاهر إذ جَعَلَ الطاعة من جملة الإيمان، وكذا إن لم تجعل، فإن اليقين يزداد بالألف، وكثرة التأمل، وتناصر الحجج. انتهى.
          وتفصيل ذلك: أنه أراد بالناس أولاً في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173]، الركب من عبد القيس الذين استقبلوا أصحاب محمد صلعم.
          وقيل: هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وأطلق عليه الناس: من باب إطلاق العام، وإرادة الخاص مجازاً؛ لأنه من جنسهم، كما يقال: فلان يركب الخيل وليس له إلا فرس واحد، أو لأنه انضم إليه ناس من أهل المدينة وأذاعوا كلامه، وأراد بالناس ثانياً في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] أبا سفيان بن حرب وأصحابه، فقد جاء: أنه نادى عند انصرافه من أُحُد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال ◙: (إن شاء الله)، فلما كان القابلة خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران، فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من الزبيب إن ثبطوا المسلمين.
          وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً فقال له: يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا / إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم بن مسعود فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريد، أفترون إن تخرجوا وقد جمعوا لكم، ففتروا، فقال ◙: (والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد)، فخرج في سبعين راكباً كلهم يقولون: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى): أي في الأحزاب: ({وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]) وسقطت واو <{وَمَا}>للأصيلي والضمير في ({مَا زَادَهُمْ}) للخطب أو البلاء أو لرؤية المؤمنين الأحزاب؛ أي: زادهم ذلك إيماناً بالله وبمواعيده وتسليماً لمقاديره وأوامره، و{قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ} بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ} [البقرة:214] الآية، {وَرَسُولِهِ} بقوله صلعم: (سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم)، {وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] في النصرة وكون العاقبة لهم، حيث أرسل الله تعالى على الأحزاب من قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير وكانوا اثني عشر ألفاً ريح الصبا، وجنوداً من الملائكة لم يروها، وذلك: أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبال الأحزاب ضرب الخندق على المدينة بإشارة من سلمان، ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف، والخندق بينه وبينهم، ومضى على الفريقين قريب شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالأحجار والنبال، حتى بعث الله ريح الصبا باردة في ليلة شاتية؛ فقلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، وكفأت قدورهم، وسفت التراب في وجوههم، حتى لم يبق الرجل يرى ما بجانبه، وماجت الخيل والدواب وأهلها بعضهم في بعض، وكبَّرت الملائكة في أطراف الجيش، فقال طلحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطاً في المغازي.
          ثم استدل المؤلف أيضاً على قبول الإيمان بالزيادة والنقصان بقوله: (وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ): فـ(الحب والبغض) مبتدأ ومعطوف عليه والخبر (من الإيمان)، ويحتمل: جر (الحب) وما عطف عليه عطفاً على المضاف إليه الباب، فيدخل في الترجمة على هذا دون الأول، بل ذكر لبيان إمكان الزيادة والنقصان كالآيات.
          قال الكرماني: وعلى التقديرين فيحتمل: أن يكون من كلام البخاري، كقوله: (وهو قول وفعل...إلخ).
          واستبعده البرماوي وأن يكون من كلام النبي صلعم، ذكره معلقاً للاستدلال به، وإن لم يكن على شرطه فلذا لم يوصله.
          قال في ((الفتح)): هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي ذر بلفظ: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)، ومن حديث أبي أمامة بلفظ: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان) انتهى.
          ونقل البرماوي عن المنذري: إن في سنده القاسم بن عبد الرحمن الشامي، وقد تكلم فيه غير واحد، نعم في ((الصحيحين)) شاهد له وهو (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله) الحديث، انتهى ما في البرماوي.
          ثم قال في ((الفتح)): ورواه الترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث / أبي أمامة، ونقل العيني عن الترمذي أنه قال: هذا حديث منكر، وزاد أحمد في حديث أبي أمامة: (ونصح لله)، وزاد في أخرى: (ويُعمل لسانه في ذكر الله)، وله عن عمرو بن الجموح بلفظ: (لا يحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله) ولفظ البزار رفعه: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). وسيأتي عند المصنف: (آية الإيمان حب الأنصار)، واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الحب والبغض يتفاوتان.
          وقال البرماوي: رواه البيهقي مرفوعاً بلفظ: (أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وأن تبغض في الله)، وفي هنا للسببين كما في قوله صلعم: (أن امرأة دخلت النار في هرة).
          وقال الطيبي: (في) هنا بمعنى اللام كما في حديث: (من أحب لله) إشارة إلى الإخلاص، لكن (في) أبلغ؛ أي: الحب في جهته ووجهه، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69].
          وقال ابن الملقن في ((التوضيح)): (في) هنا _أي: في حديث الباب_ للسببية؛ أي: بسبب طاعة الله ومعصيته، كقوله صلعم: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) وكقوله: في التي حبست الهرة ودخلت النار فيها؛ أي: بسببها.
          (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ): قدمه على قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قوة متنه وشرف نسبته؛ لظهور دلالة هذا على المدعي، وتضمن بيان المراد من الإيمان القابل للزيادة والنقصان، قاله ابن كمال باشا.
          ورد قول الكرماني: تلك الآيات دلت على الزيادة صريحاً، وهذه تلزم الزيادة فيها ففصل بينهما إشعاراً بالتفاوت. انتهى.
          فقال ابن كمال باشا: ولا يذهب عليك أنه لا يصلح وجهاً للتأخير عن قول عمر، فالوجه ما قدمناه. انتهى.
          قال في ((الفتح)): والتعليق المذكور وصله أحمد وابن أبي شيبة في كتاب (الإيمان) لهما من طريق عيسى بن عاصم، قال: حدثني عدي بن عدي، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرائض....إلخ.
          ورواية المؤلف هنا بلفظ: (إن للإيمان) باللام في معظم الروايات خبر (إن) و(فرائض): اسمها مؤخراً، وفي رواية ابن عساكر: <إن الإيمانَ فرائضُ> بحذفها فالإيمان اسمها و(فرائض) خبرها وما بعده معطوف عليه.
          وقال العيني: هذا من تعاليق البخاري ذكره بصيغة الجزم فهو حكم منه بصحته، وأخرجه أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد رسته في كتاب (الإيمان) تأليفه، فقال: حدثنا ابن مهدي: حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: كتب عمر ☺، فذكره، وهذا إسناد صحيح.
          قال الكرماني: والغرض من هذه الكتابة بيان أن عمر كان قائلاً: بأن الإيمان قول وفعل، وكان قائلاً: بزيادة الإيمان ونقصانه حيث قال: استكملها ولم يستكملها، لكن لقائل أن يقول: لا يدل ذلك عليه، بل على خلافه، إذ قال: (إن للإيمان كذا وكذا) فجعل الإيمان غير الفرائض وأخواتها، وقال: (استكملها)؛ أي: الفرائض ونحوها الإيمان، فجعل الكمال لما للإيمان لا للإيمان. انتهى.
          وأقول: يعني أن الإيراد كما في ((الفتح)) إنما يرد على رواية: (إن للإيمان) باللام لا على حذفها، وأجاب عنه بأن آخر كلامه يشعر بأن الإيمان هذه الأشياء، وهو قوله: (فمن استكملها): أي الفرائض وما معها (استكمل الإيمان)، وبهذا تتلفق الروايتان فالمراد أنها من المكملات؛ لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيماناً.
          وقال العيني: لو وقف الكرماني على رواية ابن أبي شيبة لما قال ذلك؛ لأن في روايته: (جعل الفرائض وأخواتها عين الإيمان)، وكذا على رواية ابن عساكر.
          وأقول: الإشكال مبني على إثبات اللام الجارة دون إسقاطها، فلا وجه لاعتراض العيني، فتأمل على أني أقول: ولا إشكال على إثباتها أيضاً مع قطع النظر عما يشعر به آخر كلامه إذ يصح أن يقال: في المركب من أجزاء مع أن تلك / الأجزاء هن عين تلك الأجزاء من حيث اجتماعها، فتأمل.
          وقول العيني: وقال بعضهم: وبالأول جاء الموصول، قلت: جاء الموصول بالأول وبالثاني جميعاً على ما ذكرنا. انتهى.
          وأقول: مستنده رواية ابن أبي شيبة التي وصلها، وهذه وصلها في ((الفتح)) باللام، والعيني وصلها بلا لام، فإن كانت فيها روايتان استقام ما قالا، وإلا فما قاله أحدهما. فافهم.
          (إِنَّ) بكسر الهمزة بلا فاء في أوله، (لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ) اسم (إن) مؤخراً، و(للإيمان) خبرها مقدم، وفي رواية ابن عساكر: <إن الإيمان> بحذف اللام الجارة، فهو اسم (إن)، و(فرائض) خبرها، وما عطف عليه، والفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة: ما يثاب على فعله، ويعاقب على تركه كالصلاة والصوم والحج.
          (وَشَرَائِعَ): جمع شريعة، قال في ((المصابيح)): قيل: والمراد بها صفة الصلاة، وعدد شهر رمضان، وعدد جلد القاذف، وعدد الطلاق وفيه نظر. انتهى.
          وقال في ((التوضيح)): قال ابن المرابط: الفرائض: ما فرض علينا.
          وأقول: بل هي بمعنى الاعتقادات الدينية المشار إليها بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13]، ووقع للجرجاني: <فرائع> بالفاء، والراء جمع: فريعة بمعنى: منفرعة على غيرها، والمعنى عليها صحيح فهو شيء، وإن قال القسطلاني: وليس بشيء إلا أن يريد أنه لم يثبت، و (وَحُدُوداً): جمع حد بمعنى: شبهات ممنوعة.
          (وَسُنَناً): جمع سنة بمعنى: مندوبة، وهي ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، ويرادفها المندوب، والتطوع، والمستحب، والمرغب فيه، والنافلة، والحسن على رأي وفيه تفصيل لغير الشافعية، وإنما فسرنا هذه الأشياء بما ذكر دون أن نعمم في الشرائع والسنن؛ لئلا يحصل تكرار، وليشمل الاعتقاديات والأعمال والتروك الواجبين والمندوبين.
          (فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا): أي: المذكورات (اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ): أي: فمن جمعها كمل إيمانه (وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ): بل ينقص بقدر نقصها وهذا في الاعتقاديات التي لا يوجب عدم اعتقادها كفراً، وإلا فينتفي الإيمان بانتفائها، والغرض _كما تقدم_ أن عمر ممن يقول: بأن الإيمان قول وعمل ونية، ويزيد وينقص، ففي قوله: (فمن استكملها...إلخ) دلالة على قبول الإيمان الزيادة والنقصان، وفي قوله السابق: (أن للإيمان فرائض...إلخ) إشارة إلى أنه قول وعمل ونية (فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ): أي: فسأوضحها ببيان تفاريعها بحيث يفهمها كل أحد، وأما أصولها فكانت معلومة لهم وفيه: دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة؛ لأن الحاجة لم تتحقق لمعرفتهم لأصولها فعزم على أنه إذا تفرغ من الاشتغال بالأهم فصلها مبالغة في نصحهم وتنبيههم على المقصود، ولم يعلم أنه بينها لهم بعد ذلك وقوله: (حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا): متعلق بقوله: (فسأبينها لكم) و(حتى) للتعليل لا للغاية والاستثناء، فافهم.
          (وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ): والباء زائدة في الخبر بعد ما النافية و(على صحبتكم): متعلق به (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ): أي: الخليل (صلعم): ثبتت التصلية للأصيلي _كما في اليونينية وفرعها_ وسقطت لغيره ({وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]): استدراك من قوله: {بَلَى} [البقرة:260] الواقع جواباً لقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة:260] وهو متعلق بمحذوف يدل عليه السياق؛ أي: سألتك كيف تحيي الموتى؟
          قال البيضاوي: أي: بلى آمنت ولكن سألت لأزيد بصيرة وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال.
          وقال في ((الكشاف)): {وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] معناه: ليزيد قلبي سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة إلى الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وأزيد / للبصيرة واليقين؛ ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري، فأراد بطمأنينة القلب: العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك.
          وقال الرازي في (تفسيره): وهاهنا سؤال صعب وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوز النقيضة أو لا فإن جوز نقيضه بوجه من الوجوه فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع قوع التفاوت في العلوم. انتهى.
          قال ابن كمال باشا: وليس بشيء؛ لأن التفاوت بين العلوم غير منحصر في جهة احتمال النقيض كيف لا ولو كان منحصراً فيها لما كان تفاوت بين التصديق التحقيقي، والتصديق التقليدي؛ لأن كل واحد منهما من حيث أنه تصديق يقيني لا يحتمل النقيض والتفاوت ظاهر، فإن التصديق اليقيني باعتبار كونه ثابتاً لا يزول بتشكيك المشكك، والتقليدي لعدم ثبوته، كذلك يزول به. انتهى.
          وقال البغوي: أي: ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين؛ لأن الخبر ليس كالمعاينة.
          وقال: في ((الفتح)) أشار البخاري إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]: أي: يزداد يقيني، وعن مجاهد: لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أن نبينا قد أمر باتباع ملته كان كأنه ثبت عن نبينا صلعم وإنما فصل المصنف بين هذه الآية وبين الآية التي قبلها؛ لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة.
          (وَقَالَ مُعَاذٌ): بضم الميم وبالذال المعجمة، وثبت للأصيلي: <ابن جبل>كما في اليونينية وفرعها، ابن عمرو بن أوس أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي، أسلم وهو ابن ثمانية عشرة سنة، وشهد المشاهد كلها، وشهد العقبة الثالثة مع السبعين من الأنصار، روي له عن رسول الله صلعم مائة وسبعة وخمسون حديثاً خرج البخاري منها في ((صحيحه)) خمسة كما في (العمدة) و(الكواكب) لا ستة كما وقع للقسطلاني، وأخذ رسول الله صلعم يده فقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك)، فقال: (أوصيك يا معاذ! لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
          وهو أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلعم، وهم: هو وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري، وكان أحد الذين يفتون على عهد رسول الله صلعم وهم: هو وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعمر وعثمان وعلي، وكان أعلم الأمة بالحلال والحرام كما أخبر بذلك أشرف الأنام عليه أشرف الصلاة والسلام وتوفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة بطاعون عمواس وقبره في مشارق الغور.
          (اجْلِسْ بِنَا): همزة (اجلس) للوصل (نُؤْمِنْ سَاعَةً): والمخاطب بذلك الأسود بن هلال، وهذا التعليق كالسابق وصله أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.
          ودلت الرواية الأولى على أن الأسود أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره، ووجه الدلالة منه ظاهر؛ لأنه مؤمن كامل الإيمان فوجب أن يحمل على أنه يزداد إيماناً بذكر الله تعالى.
          وقال أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة؛ لأن معاذ / إنما أراد تجديد الإيمان؛ لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبداً مجدداً كلما نظر وفكر، وما نفاه أولاً أثبته آخراً؛ لأن تجديد الإيمان إيمان.
          وقال النووي: معناه: نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين فإن ذلك إيمان.
          وقال ابن كمال باشا: ليس المراد أصل الإيمان؛ لأنه كان حاصلاً، بل زيادته وتكميله من جهة العبادات قولاً وفعلاً، ومن قال: المراد زيادة الإيمان؛ أي: اجلس حتى تكثر وجوه دلالات الأدلة الدالة على ما يجب الإيمان به أصاب في تعيين المراد وأخطأ في تفسيره كما لا يخفى.
          وأقول: أراد الاعتراض على الكرماني ولا خطأ في تفسيره إذ أصل الإيمان حاصل بالأدلة؛ فيكون المقصود تكثير الأدلة المحصلة؛ لكمال الإيمان فتأمل.
          تنبيه: الجلوس والقعود مترادفان على ما قاله الجوهري.
          وقال في ((القاموس)): القعود والمقعد: الجلوس، أو هو من القيام، والجلوس من الضجعة أو من السجود.
          وقال ابن كمال باشا: الجلوس والقعود مترادفان على ما ذكره الجوهري وغيره من أئمة اللغة.
          وقال الحريري في (درة الغواص): ويقولون للقائم: اجلس، والاختيار _على ما حكاه الخليل_ أن يقال: لمن كان قائماً: اقعد، ولمن كان نائماً أو ساجداً: اجلس، وعلل بعضهم لهذا الاختيار بأن القعود: هو الانتقال من علو إلى سفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجله: مقعد، وأن الجلوس: هو الانتقال من سفل إلى علو، ومنه سميت نجد جلساً لارتفاعها، وقيل لمن أتاها: جالس وقد جلس، ومنه: قول عمر بن عبد العزيز للفرزدق:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها                     إن كنت تاركُ ما أمرتك فاجلس
          أي: فقصد نجداً وموجب هذا البيت أن عمر لما كان والياً على المدينة، قال للفرزدق: إن كنت تلزم العفاف وإلا فاخرج إلى نجد، فإن المدينة ليست بدار مقامة لك.
          وحكى ابن خالويه قال: دخلت يوماً على سيف الدولة، فلما مثلت بين يديه، قال لي: اقعد ولم يقل اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب واطلاعه على أسرار كلام العرب.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ): ☺: هو عبد الله بن مسعود بن غافل _بالغين المعجمة والفاء_ الهذلي نسبة إلى هذيل بن مدركة أحد أجداده، أسلم قديماً قبل عمر بن الخطاب قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وكان سبب إسلامه: أنه صلعم مر به وهو يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط، فقال له النبي صلعم: (يا غلام هل من لبن)، قال: نعم ولكني مؤتمن، قال: (فهل من شاة لا ينزو عليها الفحل؟)، فأتاه بها فمسح صلعم ضرعها، فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب منه، وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: (اقلص)، فقلص.
          وكان كثير الولوج على رسول الله صلعم؛ لأنه كان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، ويمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلها في ذراعيه، وكان مشهوراً بأنه صاحب سر رسول الله صلعم وسواكه ونعله وطهوره في السفر، وبشره صلعم بالجنة، قال: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد وسخطت لها ما سخط ابن أم عبد).
          وكان شبيهاً برسول الله صلعم في سمته وهديه ودَله _بفتح الدال_؛ أي: شكله، وكان خفيف اللحم شديد الأدمة، نحيفاً قصيراً جداً نحو ذراع، ولما ضحك الصحابة من دقة رجليه، قال صلعم: (لرجل عبد الله في الميزان أثقل من أحد).
          ولي / قضاء الكوفة ومالها في خلافة عمر، وصدراً من خلافة عثمان، ثم رجع إلى المدينة ومات بها ودفن بالبقيع ليلاً بوصية منه، وصلى عليه عثمان أو الزبير أو عمار، ويؤيد هذا ما نقله في ((التهذيب)) عن أبي طيبة أنه قال: مرض ابن مسعود فعاده عثمان، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرتهن أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلعم يقول: (من قرأ كل ليلة سورة الواقعة لم تصبه فاقة) وقيل: مات بالكوفة، وظاهر كلام النووي في ((التهذيب)) ترجيحه، واتفقوا على أنه توفي وهو ابن بضع وستين سنة، روي له ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، أخرجا منها أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، ويكفيه شرفاً أن الخلفاء الأربعة وكثيراً من الصحابة رووا عنه.
          (الْيَقِينُ: الإِيمَانُ كُلُّهُ): وجه الاستدلال به (كله) الواقع توكيداً للإيمان يدل على أن الإيمان يتبعض؛ لأن كلا وأجمع لا يؤكد بهما إلا ماله أجزاء يصح افتراقها حساً أو حكماً، فيلزم أن يقبل الزيادة والنقص، قاله الكرماني: بزيادة هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية)، والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً.
          قال في ((الفتح)): ولا يثبت الرفع، وجرى المصنف على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة وحذف ما يدل عليه بالصراحة إذ لفظ النص صريح في التجزئة، وفي لفظ أحمد عن ابن مسعود أنه كان يقول: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً، وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود ولم يذكره لما تقدم، وبما تقرر ظهور لك أنه لا حجة في هذا الأثر لمن يقول: إن الإيمان مجرد التصديق إذ مراد ابن مسعود أن اليقين هو أصل الإيمان، فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح جميعاً بالأعمال الصالحة، حتى قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقاً إلى الجنة وهرباً من النار.
          تنبيه: (اليقين) من الكيفيات النفسانية التصديقية التي متعلقها الخارجي لا يحتمل النقيض بوجه، ففي اللغة: (اليقين): وهو العلم وزوال الشك، يقال: يقِنت الأمر _بالكسر_ يقيناً وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنًى، وأنا منه على يقين وذلك عبارة عن التصديق، وهو أصل الإيمان فعبر بالأصل عن الجميع من القول والفعل والنية، كقولهم: (الحج عرفة) قاله ابن الملقن، وتبعه العيني.
          وإذا فهمت ما تقرر ظهر لك اندفاع ما أورده ابن كمال باشا على توجيه الكرماني السابق من قوله: إن الإيمان بمعنى اليقين، وإن كان متجزئاً بحسب تجزئ متعلقه لكنه لا يصح حكماً، فإن حكم الإيمان لا يبقى عند انتفاء بعض أجزاء اليقين المعتبر في حده شرعاً، وما بحثه من قوله بقي هنا بحث، وهو أن القول المزبور كما دل بمفهومه على الوجه المذكور على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان، كذلك دل بمنطوقه على أنه ليس فيه إلا ما هو من جنس اليقين فينافي ما ذكر من أنه قول وفعل، فتأمل انتهى.
          وقد وجه أولاً كلام البخاري بقوله: وجه الاستدلال به أنهم لا يؤكدون بلفظة كل إلا ما يمكن فيه التبعيض فلهذا أجازوا أن يقال: ذهب المال كله لكون المال ما يتبعض، ومنعوا أن يقال: ذهب زيد كله؛ لأنه مما لا يتجزئ، ذكره الحريري في (درة الغواص). فعلم منه بناء على هذا الأصل أن الإيمان كلاً وبعضاً فيقبل الزيادة والنقصان. انتهى، فانظر الفرق بينه وبين ما أورد عليه.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ): أي: عبد الله بن عمر بن الخطاب أسلم / مع أبيه قبل بلوغه وهاجر معه، ولا يصح قول من قال: أسلم قبل أبيه وأمه كأخته حفصة، واسم أمه: زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي، وكنيته أبو عبد الله، وإذا أطلق ابن عمر انصرف إليه فهو علم له بالغلبة كابن عباس، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد الستة المكثرين للرواية عن رسول الله صلعم، بل قيل: سبعة بيناهم كثراً ونظماً في ترجمة عائشة في كتاب الوحي فراجعه، روى عن رسول الله صلعم: ألف حديث وستمائة وثلاثين، روى البخاري منها: مائتين وواحد وخمسين، وكان كثير الصدقة فربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً، وقلما يوجد له نظير في المتابعة لرسول الله صلعم، قال جابر ☺: لم يكن أحد من الصحابة ألزم لطريق النبي صلعم ولا أتبع من ابن عمر وفي إعراضه عن الدنيا ومقاصدها وعن التطلع إلى رئاسة أو غيرها.
          وأدل دليل على عظيم مرتبته شهادة رسول الله صلعم له بقوله: (إن عبد الله رجل صالح).
          وفي (طبقات الشعراني الوسطى): كان من عباد الصحابة وزهادهم لم يضع لبنة على لبنة، ولا غرس شجرة منذ مات رسول الله صلعم وكان يقول: يا ابن آدم! صاحب الدنيا بيديك وفارقها بقلبك وهمك، وكان يقول: لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه ولا يحتقر من دونه ولا يبغي بالعلم ثمناً. انتهى.
          ولم يقاتل في الحروب التي وقعت بين المسلمين، لكنه كان يقول: ما أجد في أسف على شيء فاتني من الدنيا إلا أنني لم لم أقاتل مع علي الفئة الباغية، وعاش بعد رسول الله صلعم ستين سنة، فلم يخف عليه شيء من أمر رسول الله صلعم ولا من أمر الصحابة، وتوفي بمكة بعد الحج سنة ثلاثة وسبعين سنة بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، عن أربع أو ست وثمانين سنة، ودفن بالمحَصب، وقيل: بفَخٍّ _بفاء مفتوحة وخاء معجمة مشددة_ وقيل: بذي طوى، وقيل: بسرف، وكلها مواضع بقرب مكة، وصلى عليه الحجاج وفي الصحابة أيضاً عبد الله بن عمر حرمي، يقال له: صحبة يروى عنه حديث واحد في الوضوء.
          (لاَ يَبْلُغُ عَبْدٌ): بالتنكير لابن عساكر، وبالتعريف لغيره (حَقِيقَةَ التَّقْوَى): أصل التقوى وقياً، قلبت الياء واواً ثم قلبت الواو الأولى مثناة فوقية فصار تقوى مثل شروى، ولم يقلبوا في نحو رَيًّا؛ لأنها صفة وهم إنما يقبلون الياء واواً في الأسماء دون الصفات، كما هو مقرر في علم الصرف.
          قال في ((الفتح)): المراد بالتقوى: وقاية النفس عن الشرك والأعمال السيئة، والمواظبة على الأعمال الصالحة، وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف. انتهى، فتأمل.
          وقال الكرماني وتبعه كثيرون: التقوى: الإيمان؛ لأن المراد من التقوى وقاية النفس عن الشرك، وفيه: إشعار بأن بعض المؤمنين بلغوا إلى كنه الإيمان وبعضهم لا، فتجوز الزيادة والنقصان، وفي بعض الروايات: بدل (التقوى): (الإيمان) انتهى.
          أي: فتدل على أن التقوى هي الإيمان، واعترضه ابن كمال باشا فقال: لم يصب في ذكره الشرك في مقام الكفر مطلقاً؛ لأنه أخص من مطلق الكفر، ثم إنه تعسف في دعوى الإشعار المذكور مع وضوح الوجه الذي قررناه.
          وأقول: الوجه الذي قرره هو قوله: أراد بالتقوى وقاية النفس من الكفر، وذلك بالإيمان وبحقيقته تمامه، فالمراد من حقيقة التقوى كمال الإيمان، وإضافة الكمال إليه تتضمن الدلالة على قبول الزيادة والنقصان.
          وأقول: إذا ذكر الشرك لا في مقابلة الكفر يكون أعم فلا خطأ في التعبير به، وأراد الكرماني بحقيقة التقوى تمامها كما أراد المعترض، فمن / يكون وصل إليها فقد زاد إيمانه، ومن لم يكن كذلك فقد نقص إيمانه بحسب ما تركه منها، وهذا ليس فيه تعسف لمن قد أنصف على أنه يمكن أن يكون الإشعار من الإضافة فيساوي ما قاله من كل وجه فالاعتراض بأطلاقه مدفوع فقابله وأنصف.
          واعلم أن التقوى جاءت في القرآن لمعان للتوحيد والإيمان نحو: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26]؛ أي: الإيمان، وللتوبة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ} [الأعراف:96]؛ أي: تابوا، وللطاعة، كقوله: {أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} [النحل:2]؛ أي: فأطيعون، ولترك المعصية كقوله تعالى: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ} [البقرة:189]؛ أي: لا تعصوه، وللإخلاص نحو: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]؛ أي: من إخلاصها وللخشية كقوله تعالى: و {اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]؛ أي: اخشوه.
          (حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ): بالحاء المهملة وتخفيف الكاف، من حاك يحيك (فِي الصَّدْرِ): أي: في القلب؛ أي: لا يصل إلى تمام الإيمان حتى يترك ما يؤثر في قلبه، وتفسير التيمي له يثبت لا ينبغي أن يثبت.
          ففي ((الصحاح)): حاك بالسيف وأحاك بمعنى يقال: ضربه فما حاك فيه بالسيف: إذا لم يعمل، والحيك: أخذ القول في القلب، يقال: ما يحيك فيه الملامة: إذا لم تؤثر فيه: انتهى.
          وفي ((الأساس)) للزمخشري: ومن المجاز: ضربه بالسيف فما حاك فيه: إذا لم يعمل فيه، وكلمة فما حاك فيه كلامه، وفلان لا يحيك فيه النصح، ولا يحيك وما حاك في صدري منه شيء وما حك انتهى.
          وقال النووي: (ما حاك) بالتخفيف: هو ما يقع القلب ولا ينشرح له الصدر وخاف الإثم.
          وقال البرماوي: وفي بعض نسخ المغاربة: (حكَّ) بتشديد الكاف، وفي بعض نسخ العراق: (حاكَّ): بالتشديد أيضاً من المحاكة. انتهى.
          والكل بمعنى كما قاله عياض وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعاً: (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع الناس عليه)، وهو عند أحمد من حديث وابصة.
          وعند الترمذي وحسنه من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله صلعم: (لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس).
          قال في ((الفتح)): وليس فيها شيء على شرط المصنف، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر ولم أراه إلى الآن موصولاً، وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب (التقوى) عن أبي الدرداء ☺ قال: تمام التقوى: أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ): هو ابن جَبْر _بفتح الجيم وسكون الموحدة_ على المشهور، وقيل: إنه بالتصغير، المخزومي مولى لعبد الله أو قيس بن السائب المخزومي، تابعي، متفق على جلالته وإمامته في التفسير والحديث والفقه، وقال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، مات سنة مائة، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: أربع ومائة، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة بمكة، وهو ساجد، روى له الجماعة وقد وصل أثره هذا عبد بن حميد في (تفسيره)، قال في تفسير: ({شَرَعَ لَكُمْ} [الشورى:13]): زاد الهروي وابن عساكر: <{مِّنَ الدِّينِ} [الشورى:13]> (أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ): يعني نوحاً (دِيناً وَاحِداً): ورواه ابن المنذر بسنده بلفظ: وصاه وأنبياءه كلهم ديناً واحداً وهو أنسبُ بلفظ الآية من المذكور هنا.
          وقال البيضاوي: أي: شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من أرباب الشرائع وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله. انتهى
          وقال الكرماني: أي: هذا الذي تظاهرت / عليه أدلة الكتاب والسنة من زيادة الإيمان ونقصانه، هو شرع الأنبياء الذين قبل نبينا صلعم كما هو شرعه ◙؛ لأن الله تعالى قال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] انتهى.
          ومثله العيني وزاد تبعاً لابن الملقن في (توضيحه):
          ويقال: جاء نوح ◙ بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وهو أول من جاء من الأنبياء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ونوح أول نبي جاء بعد إدريس ◙ انتهى.
          وأقول: لينظر فيما قالاه، فإنه قد يفهم أن تحريم هذه الأشياء إنما هو زمن نوح دون زمن من تقدم ولا يعرف إلا جواز نكاح الأخت من بطنٍ آخر في شرع آدم لضرورة التناسل، فافهم وحرره.
          وقد استدل الشافعي وأحمد وغيرهما على أن: الأعمال تدخل في الإيمان، بقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، قال الشافعي: ليس عليهم حجة أحج من هذه الآية، أخرجه الخلال في كتاب (السنة).
          وقال السراج البلقيني: وقع في سائر روايات الصحيح تصحيف والصواب: (أوصيناك يا محمد وأنبياءه)، كما أخرجه عبد بن حميد والغريابي والطبراني وابن المنذر في (تفاسيرهم)، وبه يستقيم الكلام وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن السياق ذكر جماعة؟. انتهى.
          وأجاب في ((الفتح)) فقال: لا مانع من الإفراد في التفسير وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع وأفراد الضمير لا يمتنع؛ لأن نوحاً أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون ذكره المصنف بالمعنى.
          وقال العيني: ليس بتصحيف بل هو صحيح ونوح أفرد في الآية، وبقية الأنبياء عطفت عليه، وهم داخلون فيما وصى به نوحاً وكلهم مشتركون في هذه الوصية، فذكر واحد منهم يعني عن الكل على أن نوحاً أقرب المذكورين وهو أولى بعود الضمير إليه، فافهم. انتهى.
          وأقول: لا يخفى أن استشكال البلقيني إنما هو في إفراد نوح بقوله: (وإياه) وحقه: وأنبياءه، وإن جوابهما عن ذلك. وبقي في كلام مجاهد استشكال آخر وهو أن مقتضى الظاهر أن يقول: وصاه: بلفظ الغيبة على مقتضى ظاهر الآية، كما في رواية ابن المنذر السابقة، وقد يجاب: بأنه التفات عن الغيبة إلى التكلم وإن كان في كلامين؛ لأنه لما حكى قولهم صار كأنه بمنزلته فافهم.
          (وَقَالَ): سقطت الواو من رواية ابن عساكر (ابْنُ عَبَّاسٍ): ☻، تقدم ترجمته؛ أي: قال في تفسير قوله تعالى: ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]) من قوله تعالى في سورة المائدة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] (سَبِيلاً وَسُنَّةً): وهذا التعليق وصله عبد الرزاق في (تفسيره) بسند صحيح.
          قال في ((الفتح)): والمنهاج: السبيل؛ أي: الطريق الواضح والشرعة والشريعة بمعنى، وقد شرع؛ أي: سن فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب.
          ومثله في الكرماني وزاد: وفي بعض النسخ: (سنة وسبيلاً) فهو مرتب، وأورد الكرماني سؤالاً وجواباً وتبعوه قال: فإن قلت: مالجمع بين مقتضى الآية الأولى من اتحاد شرعة الأنبياء ومقتضى الثانية من أن لكل شرعة؟، قلت: الاتحاد في أصول الدين والتعدد في فروعه. انتهى.
          فإن قيل: إذا كان المراد بالشرعة في الآية الأولى هو التوحيد فقط فكيف يصح استدلال البخاري بذلك؟
          قلت: يمكن أن يجاب: بأنها كما دلت على الاتباع في التوحيد المتفق عليه دلت على وجوب العمل بالطاعات والشرائع وإن اختلفت فتدخل في حقيقة الإيمان الكامل فيصبح الاستدلال / كما تقدم الإشارة إلى ذلك في كلام البيضاوي، فتأمل. ومقتضى كلام البرماوي أنهما بمعنى فإنه قال: (سبيلاً وسنة) هو تفسير ابن عباس لقوله: ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}).
          قال الجوهري، الشرعة: الطريق الواضح وكذا المنهاج، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
          وأقول: ويؤيده ما ذكره ابن الملقن في ((التوضيح)) عن الواحدي وغيره في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] قال: الشريعة: الدين والملة والمنهاج والطريقة والسنة والقصد، وبذلك سميت شريعة النهر؛ لأنه يتوصل منها إلى الانتفاع، والشارع: الطريق الأعظم، ونقل فيه أيضاً عن بعضهم: أنهما جميعاً بمعنى الطريق، وأن الطريق: الدين، لكن اللفظ إذا اختلف أتي فيه بألفاظ للتأكيد. انتهى.
          ويؤيد القول بالتغاير ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}: قال: الدين واحد والشريعة مختلفة، وما قاله محمد بن يزيد: {شِرْعَةً} معناها: ابتداء الطريق والمنهاج: الطريق المستمر.