الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب زيادة الإيمان ونقصانه

          ░33▒ (بَابُ: زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ): وجه مناسبته لما قبله: أن المذكور في الباب الأول أحبية دوام الدين إلى الله، والمذكور في هذا زيادة الإيمان ونقصانه، ولا شك أن الإيمان يزيد بدوام العبد على أعمال الدين، وينقص بتقصيره في الدوام سيما على مذهب البخاري، وبعض المحدثين، قاله العيني.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بالجر عطف على (زيادة) المضاف إليها الباب لا غير، ولأبي ذر وابن عساكر: <╡> في سورة الكهف: ({وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]): أي: زيادة الهدى مستلزمة للإيمان أو المراد بالهدى الإيمان نفسه، وحينئذ فتحصل المطابقة، وضمير ({وَزِدْنَاهُمْ} [الكهف:13]) راجع إلى أصحاب الكهف؛ أي: زدناهم هداية وتثبيتاً أو إيماناً وبصيرة، وفي سورة المدثر: ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]): عطف على {لِيَسْتَيْقِنَ} [المدثر:31] الواقع علة لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} [المدثر:31] وتقدم الكلام على هاتين الآيتين عند ذكر المصنف لهما في أول كتاب الإيمان، لكن أعادهما ليوطئ بهما إلى معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة، فالاستدلال بهما للزيادة نصاً، وللنقص استلزاماً.
          وأما الثالثة فليس الكمال نصاً في الزيادة، وكذا قال المصنف، فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص، ولهذه النكتة غاير في أسلوب الثالثة، وبهذا التقدير يندفع الاعتراض عليه بأن الثالثة لا دليل فيها.
          قال العيني: ولو ذكر ما يتعلق بالزيادة والنقصان في باب واحد إما هناك، وإما هنا لكان أنسب، لكنه عقد هذا الباب هنا لأجل المناسبة التي ذكرناها.
          ودلالة الآية الثانية ظاهرة للتصريح فيها بالزيادة والشيء إذا قبل أحد الضدين لا بد، وأن يقبل الضد الآخر كذا قالوا، وفيه أن نحو الأنبياء يقبلون زيادة الإيمان ولا يقبلون نقصانه، فتأمله.
          وكذا دلالة الأولى كما قررناه، وقيل: احتج على الزيادة صريحاً بهاتين الآيتين، وعلى النقصان بالآية الثالثة بطريق الاستلزام.
          (وَقَالَ): تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]): أي: من فرائض وسنن.
          قال البيضاوي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع، وقوانين الاجتهاد.
          وعدل عن أسلوب الآيتين السابقتين حيث قال: (وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} [المائدة:3]) الآية.
          قال الكرماني: لأن الغرض منها يلزمه وهو بيان النقصان، ولهذا قال: (فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص)، بخلاف ما تقدم، فإن الغرض منه إثبات الزيادة صريحاً.
          قال ابن بطال: هذه الآية حجة في زيادة الإيمان ونقصانه قال: لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن، واستقر الدين، وأراد الله قبض نبيه، وليس المراد التوحيد لوجوده قبل نزول الآية، فالمراد الأعمال فمن حافظ عليها فإيمانه أكمل من إيمان من قصر. انتهى.
          واعترضه العيني فقال: هذه الآية لا تدل أصلاً على زيادة الدين ولا على نقصانه؛ لأن المراد: أكملت لكم شرائع دينكم في هذا اليوم، وتعليله حجة عليه لنا ولم يقل أحد: إن الدين كان ناقصاً إلى نزول هذه الآية، وإنما المراد: كمال شرائع الدين في هذا اليوم لنزولها شيئاً فشيئاً، وليس المراد التوحيد كما صرح به، وبتعليله فإن ادعى أن الأعمال من الإيمان، فليس يتصور؛ لأنه يلزم أن يكون قبله ناقصاً؛ لأن الشرائع التي هي الأعمال ما كملت إلا في هذا اليوم. انتهى ملخصاً.
          وأقول: الذي قالوه، ومنهم ابن العربي: أن النقص نسبي فإيمان من مات قبل فرض الحج مثلاً ناقص بالنسبة إلى من مات بعد فرضه وتصديقه، وإن كان في حد ذاته كاملاً؛ لأنه لا اختيار له في نقصه فلازم عليه في ذلك بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئناً بأنه لو زيد لقبل وعمل به.
          وهذا شأن الصحابة ♥ الذي ماتوا قبل تكميل الفرائض.
          والحاصل: أن النقص بالنسبة إليهم / صوري نسبي ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهو نظير قول القائل: شرع محمد أكمل من موسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم؛ لاشتماله من الأحكام على ما لم يكن في شرع من قبله، ومع هذا فشرع من قبله كان كاملاً، لكن تجدد في شرع من بعده ما تجدد من الأحكام.
          وحينئذٍ: فيراد بالدين المرادف للإيمان والإسلام عند المصنف الشرائع، ويتصور نقصه بالمعنى المتقدم، ولا ضير فيه على ما عرفت، وعلى هذا فيصح قول ابن العربي: فالمراد الأعمال... إلخ، ويندفع اعتراض العيني عليه، فتأمل.
          على أن ابن المنير على ما نقل عنه في ((المصابيح)) حمل النقصان على التبعيض لا على الخلل حيث قال عنه: لا يقال: إن الكمال إذا كان حادثاً حينئذ كان النقصان موجوداً قبل.
          ولا يجوز أن يطلق على الدين، والنبي صلعم بين ظهرانيهم أنه كان ناقصاً مع وجوده طرفة عين؛ لأنا نقول: المراد بالكمال أن الفرائض التي قدر الله أن تنزل متدرجة لا دفعة كمل نزولها يومئذ لحكمة أرادها الله من التنجيم، وهذا غير مستحيل، وإنما جاء الغلط من جهة اشتراك لفظ النقصان بين الخلل وبين التبعيض الذي ذكرناه. انتهى.
          تنبيه: تقدم للمصنف قبل بستة عشر باباً أنه عقد باباً لتفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري، وهو بمعنى حديث أنس المذكور هنا، فاعترض عليه بأنه تكرار، وكان حقه أن يكتفي بأحد البابين.
          وأجيب: بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق ترجم لكل من الاحتمالين ترجمة، وخص حديث أبي سعيد بتفاضل الأعمال؛ لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات بخلاف حديث أنس، ففيه التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلاً بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة أو شعيرة، إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل واحد منهم لا يجوز عليه النقصان، وتجوز الزيادة بزيادة العلم والمعاينة.
          (فَإِذَا تَرَكَ): أي: التارك، وللأصيلي: <فإذا تركت> بتاء الخطاب (شَيْئاً): مفعول الفعل، وفي بعض النسخ: (شيء) على أن الفعل مبني للمفعول (مِنَ الْكَمَالِ): صفة (شيئاً) (فَهُوَ نَاقِصٌ): جواب إذا وضمير (فهو) إما راجع إلى التارك أو إلى الدين بالمعنى السابق، فافهم.