الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من قال: إن الإيمان هو العمل

          ░18▒ (باب مَنْ قَالَ إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ): بإضافة باب لا غير كما قاله الكرماني إلى من الموصولة أو الموصوفة والعمل يشمل عمل القلب واللسان والجوارح، فحينئذ تحصل مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له من مطابقة المجموع للمجموع، فالحديث دالٌّ على عمل القلب الذي / هو التصديق وعلى الفعل، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93] خاص بعمل اللسان على ما نقله المؤلف والمختار كما سيأتي أنه عام في كل عمل، وأما الآيتان الباقيتان فتحتملان العموم في الأعمال والخصوص على ما سيأتي في تفسيرهما فافهم.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): ولأبوي ذر والوقت: <╡> في الزخرف ({وَتِلْكَ الْجَنَّةُ}): مبتدأ وخبر ({الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}): صفة الجنة أو خبر بعد خبر، أو الجنة صفة لتلك وما بعدها خبر أو صفة أخرى و({بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]): الخبر وعلى بقية الأوجه هو متعلق بأورثتموها ويحتمل تعلقه بأورثتموها أن يكون الخبر جملة: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} [الزخرف:73] الآتي بعده وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً، وتلك إشارة إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} [الزخرف:70].
          وقرئ: ▬ورِّثتموها↨ _بتشديد الراء_ وليس المراد الإرث المعروف لامتناع حقيقته على الله تعالى، بل شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه، قاله البيضاوي.
          وقيل: (في قول ابن حجر له حق الاستحقاق مسامحة والأولى لتحقيق الحصول؛ لأن العباد لا يستحقون على الله شيئاً صرح بذلك العيني في شرحه فتأمل.
          أطلق الإرث مجازاً عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق، وقيل: المعنى صيرت الجنة لكم إرثاً من الكفار؛ لأن كل كافر لو كان مسلماً لكان له نصيب منها لكن منعه كفره، فانتقل منه إلى المؤمن لكنه لا يبقي في الآية بيان ما حصل للمؤمن فيها لا من جهة الكافر فإما أن يكون سمى الجميع إرثاً تغليباً، وإما لعلمه من أدلة أخرى.
          وفي ((الفتح)): ونقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا: (تعملون) معناه تؤمنون فيكون خاصاً.
          وما في: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} موصول حرفي أو اسمي أو نكرة موصوفة والباء للملابسة؛ أي: أورثتموها ملابسة لثواب أعمالكم أو للمقابلة وليست للسببية خلافاً للمعتزلة، وحينئذ فلا منافاة بين الآية وحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) لأن الباء في الآية لأحد المعنيين المذكورين، وفي الحديث للسببية، أو المراد بالحديث أصل الدخول وبالآية قسمة المراتب والدرجات.
          وحاصله: أن أصل الدخول بفضل الله تعالى ورحمته بخلاف المراتب فإنها بالأعمال، وجوز الكرماني أيضاً أن المراد بالجنة في الآية جنة خاصة؛ أي: رفيعة عالية بسبب الأعمال، ورده العيني بأن الإشارة إلى الجنة السابقة المعهودة تمنع ما ذكره؛ أي: من أن الإشارة إلى جنة خاصة. انتهى.
          وأقول: ما ادعاه هو محل النزاع فتدبر.
          وأجاب النووي أيضاً: بأن دخول الجنة بسبب العمل والعمل برحمة الله وفضله.
          ورده الكرماني وتبعه العيني: بأن المقدمة الأولى خلاف صريح الحديث فلا يلتفت إليها.
          وأقول: قد يمنع كون المقدمة الأولى خلاف صريح الحديث؛ لجواز أن تجعل الباء فيه للمقابلة فلا صراحة على أنه قد يعارض بالمثل بأن يقال: دخول الجنة بسبب الرحمة لصريح الآية في ذلك فتأمل.
          وأجاب الحافظ ابن حجر أيضاً: بأن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله.
          (وَقَالَ عِدَّةٌ): بكسر العين، وتشديد الدال المهملتين؛ أي: جماعة قليلة أو كثيرة، وأما العِد بدون التاء فهو الماء الذي لا ينقطع والكثرة (مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ): من للبيان أو للتبعيض كأنس بن مالك فيما رواه الترمذي وغيره مرفوعاً بسند فيه ضعف، وابن عمر فيما رواه الطبري، ومجاهد فيما رواه عبد الرزاق في (تفسيره).
          (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى): وللأصيلي وأبي الوقت: <╡> في سورة الحجر ({فَوَرَبِّكَ}): بالخطاب لمحمد صلعم ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ}): أي: المشركين الراجع إليه ضمير منهم قبله، وعينه ابن حجر في (انتقاض الاعتراض).
          وقيل: عام في المؤمنين والكافرين، وهذا هو مختار النووي فإنه قال: معناه عن أعمالهم كلها كما يأتي، وقيل: إلى المقتسمين، ولعله أقرب لذكر لفظه قبله، وقد أطال / الكلام في المقام بين صاحب ((الفتح)) و(العمدة) من الخصام وهو جواب القسم.
          ({أَجْمَعِينَ}): تأكيد لضمير النصب ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: عَنْ قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي: (عن لا إله إلا الله)، ورواه ابن عساكر بلفظ: (قال عن لا إله إلا الله).
          وقال البيضاوي: عن التقسيم والنسبة إلى السحر فنجازيهم عليه وقيل: عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي. انتهى.
          وقال في ((الكشاف)): ولنسألنهم: عبارة عن الوعيد وقيل: سؤال تقريع، وعن أبي العالية: يسأل العبد عن خَلتين، عما كانوا يعبدونه، وماذا أجابوا به المرسلين.
          وقال النووي: في الآية وجه آخر وهو المختار، والمعنى: لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل فلا تقبل.
          والحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس ضعيف.
          قال في ((الفتح)): قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: (أجمعين) بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] فيدخل فيه المسلمون والكفار، فإنهم مخاطبون بالتوحيد إجماعاً بخلاف باقي الأعمال ففيها خلاف، فمن قال أنهم مخاطبون يقول: إنهم مسئولون عن الأعمال كلها، ومن قال أنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه، فهذا هو دليل التخصيص فحمل الآية عليه أولى بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف. انتهى.
          واعترضه العيني فقال: هذا القائل قصد الرد على النووي لكنه تاه؛ لأن النووي لم يقل بنفي التخصيص لعدم التعميم في الكلام، وإنما قال: دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تقبل والأمر كذلك؛ لأن الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، ثم دعوى التخصيص بالتوحيد يحتاج إلى دليل من خارج، فإن استدلوا بالحديث المذكور فقد أجاب عنه: بأنه ضعيف.
          وهذا القائل فهم أيضاً أن النزاع في التخصيص والتعميم هنا إنما هو من جهة التعميم في قوله: {أَجْمَعِيْنَ} وليس كذلك وإنما هو في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93] فإن العمل هنا أعم من كونه توحيداً أو غيره وتخصيصه بالتوحيد تحكم. انتهى.
          وقال ابن حجر في (انتقاض الاعتراض): لا يخفى ما في كلامه من الخبط والتحامل ودعواه أن الضمير في: لنسألنهم، للمستهزئين مردود بل هو راجع إلى المشركين المذكورين في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] وذكر المستهزئين وقع استطراداً. انتهى.
          وأقول: لم يُفهِم ابن حجر كما ادعاه العيني أن محل النزاع التعميم والتخصيص في أجمعين ولا في كلامه ما يدل عليه، وإنما استدل بالتعميم في هذا على التعميم في {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما هو واضح من كلامه.
          نعم: لو اعترضه بأن التعميم في {أَجْمَعِيْنَ} من جهة المسؤولين (وفيما كانوا يعملون) للمسئول عنه لكان وارداً، فتأمل وأنصف.
          تنبيه: قال الكرماني: فإن قلت: الآية أثبتت السؤال على سبيل التوكيد القسمي، وفي آية أخرى قال: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39] فنفت السؤال.
          قلت: إن في القيامة مواقف مختلفة وأزمنة متطاولة ففي موقف أو زمان يسألون، وفي آخر لا يسألون إذ لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ أو لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان نحو: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}الآية. انتهى.
          (وقال): أي: الله تعالى، وسقط لغير الأربعة لفظ: <وقال> وغير المصنف الأسلوب من المصدر إلى الفعل لعله للتفنن أو لعدم تعيين القائل على ما يأتي قريباً في كلام ابن حجر فافهم.
          ({لِمِثْلِ هَذَا}): أي: لنيل هذا الفوز العظيم من النعيم الذي ذكره في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ . فَوَاكِهُ} إلى قوله: {فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:41-61] في الدنيا لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، / وهذا يدل على أن الإيمان هو العمل كما ذهب إليه المصنف.
          وفي ((الفتح)): والظاهر أن المصنف تأولها بمثل الآيتين المتقدمتين؛ أي: فليؤمن المؤمنون أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل فيعمل فينال في الآخرة الثواب العظيم فيقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] قال: فيحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه.
          ويحتمل أن كلامه انقضى عند قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60] وهذا من الله تعالى، وقيل: من بعض ملائكته، ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل.
          واعترضه العيني بأن المفسرين ذكروا الأقوال الثلاثة فلا يحتاج أن يقال فيها بالاحتمال؛ لأنه يوهم أن هذا تصرف منه وليس كذلك.
          وقوله: (ولعل هذا هو السر) إلى آخره فيه نظر؛ لأن البخاري لم يقصد ما ذكره هذا الشارح قط، بل مراده بيان إطلاق العمل على الإيمان ليس إلا، ولأن ذكر فعل وإبهام فاعله من غير مرجع وقرينة على تعيينه غير صحيح. انتهى.
          قال ابن حجر في (الانتقاض): انظروا واحمدوا الله على العافية والعجب من جزمه بأن البخاري ما أراد ذلك، وتأكيده هذه الشهادة بقط وبليس إلا، وأما وجهه الثاني فجوابه أن القرينة موجودة. انتهى فتأمل.
          تنبيه: من أغراض البخاري في هذا الباب وغيره من أبواب الإيمان إثبات أن العمل من أجزاء الإيمان رداً على من يقول: لا دخل له في ماهية الإيمان، وحينئذ إن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإيمان فلا نزاع فيه؛ لأن الإيمان عمل قلبي، وإن أراد أن الإيمان هو العمل كما هو ظاهر كلامه فالآيات، وكذا الحديث عامة ودعوى التخصيص تحتاج إلى دليل.