الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله

          ░13▒ (بَابُ): بإضافة باب لا غير وسقط للأصيلي فما بعده خبر لمحذوف، أي: هذا (قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم): ومقوله: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ): أي: <أعرفكم به تعالى> كما للأصيلي في غير الأصل وفرعه بدله بناء على ترادفهما وذلك؛ لأنه كلما كان الرجل أقوى في دينه وأتقى كان أعرف بربه في الواقع وينشأ عن ذلك مزيد خشيته وخوفه وذلك يدل على قبول الإيمان الزيادة والنقصان.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن الفرار من الفتن لقوة دينه وقوة الدين تدل على قوة المعرفة بالله ولا ريب أن النبي صلعم له القدح المعلى منهما.
          قال في ((التنقيح)): وقد اختلف في مراده بهذه الترجمة فقيل: الرد على الكرامية في أن الإيمان قول باللسان ولا يشترط عقد القلب.
          وقيل: بيان تفاوت الدرجات في العلم وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض ولسيدنا رسول الله صلعم أعلاها وإن كان من العقائد وأفعال القلوب. انتهى.
          وقال ابن كمال باشا: ووجه تعلق هذه الترجمة بالإيمان هو أن العلم بالله وكذا المعرفة به: التصديق به فيرجع إلى الإيمان فالمقصود بيان أن رسول الله صلعم أشدهم إيماناً ولا رد فيه على الكرامية كما توهم؛ لأنه موقوف على بيان أن الإيمان كله أو بعضه هو المعرفة، وما ذكر ساكت عنه. انتهى.
          وأقول: كيف يكون ساكتاً عنه مع قوله: (وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ: فِعْلُ الْقَلْبِ): وهو من جملة الترجمة فالمعرفة المرادفة للعلم عنده: هي الاعتقاد القلبي الجازم المطابق للواقع وهو وحده الإيمان أو منضماً إليه الإقرار باللسان ففيه دلالة واضحة في الرد عليهم، فافهم.
          و(أَنَّ): بفتح الهمزة وتشديد النون عطفاً على القول لا على المقول وإلا لكان مكسوراً إذ المقول وما عطف عليه حكمهما واحد وهو خلاف الرواية والدراية، قاله الكرماني.
          وهو كلام صحيح ومن ثم أقروه عليه.
          فقول ابن كمال باشا: إنه وهم، إذ لا مانع عنه من جهة الدراية كما لا يخفى فيه نظر لا يخفى، إذ المانع له من جهة الدراية موجود، وهو اقتضاؤه أن يكون من قول رسول الله صلعم، وليس لذلك.
          نعم: إذا جعل الكسر على الاستئناف لم يمتنع، كما صرح به العيني، ولوَّح إليه ((الفتح))، فافهم.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): ولأبوي ذر والوقت: <لقوله ╡ في سورة البقرة> ({وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]): أي: عزمت عليه وقصدته.
          ومراده كما في ((الفتح)): الاستدلال على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل، والآية وإن وردت في الأَيمان _بالفتح_، فالاستدلال بها في الإيمان _بالكسر_ واضح لاشتراكهما في المعنى إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب وكأن المصنف لمَّح لتفسير زيد بن أسلم، فإنه قال في قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]: هو كقول الرجل: إن فعلت كذا فأنا كافر لا يؤاخذه الله / بذلك حتى يعقد به قلبُه فظهرت المناسبة بين الآية والحديث وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان فإن فيه دليلاً على بطلان قول الكرامية أن الإيمان قول فقط ودليلاً على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن قوله صلعم: (أنا أعلمكم بالله) ظاهر في أن العلم بالله درجات وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض وأن النبي صلعم منه في أعلا الدرجات والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك فهذا هو الإيمان حقاً. انتهى.
          وقال البيضاوي في تفسيرهما: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]:
          اللغو: الساقط الذي لا يعتد به من كلامٍ وغيره، ولغو اليمين: ما لا عقد معه كما سبق به اللسان أو تكلم به جاهلاً لمعناه كقول العرب: لا والله وبلى والله لمجرد التأكيد لقوله: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225].
          والمعنى: لا يؤاخذكم الله بعقوبة ولا كفارة بما لا قصد معه، ولكن يؤاخذكم بهما أو بأحدهما بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبَكم ألسنتُكم.
          وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: اللغو: أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب والمعنى: لا يؤاخذكم بما أخطأتم فيه من الأيمان، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم الكذب فيها، {وَاللّهُ غَفُورٌ} حيث لم يؤاخذ باللغو، {حَلِيمٌ} [البقرة:225]. حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد تربصاً للتوبة.
          وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إذا استقرت وأما قوله صلعم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل).
          فمحمول على ما إذا لم يستقر وذلك معفو عنه بلا شك؛ لأنه يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار.
          وقال في ((الفتح)): ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله صلعم: (أو يعمل)؛ لأن الاعتقاد هو عمل القلب.
          واعلم: أن العلماء اختلفوا في محل العلم الحادث وهو غير متعين في محل عقلاً، بل يجوز أن يخلقه الله في أيِّ موضعٍ أراد تعالى من الجسد دل السمع على أنه القلب لقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] ونحوه في قوله: (وأن المعرفة فعل القلب) إيماء إليه وهذا هو الصحيح، وقيل: في الرأس لفساد الإدراك بفساد الدماغ.
          تنبيه: اختلف في العلم والمعرفة فقيل بترادفهما وهو ما عليه البخاري وجمع آخرون، وقيل: بالفرق بينهما، فقيل: المعرفة: إدراك الجزئيات، والعلم: إدراك الكليات، وقيل: العلم: إدراك المركبات والمعرفة: إدراك البسائط، وقيل: المعرفة: المسبوقة بالجهل بخلاف العلم، ولذا يطلق على الله عالم دون عارف.
          وقال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى وقد استدلوا له بقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد:19]، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة بالله تعالى، وقيل: النظر، وقيل: القصد إلى النظر الصحيح.
          وقال (المقترح): لا اختلاف فإن أول واجب خطاباً ومقصوداً: المعرفة وأول واجب اشتغالاً وأداءاً القصد إلى النظر الصحيح.
          قال في ((الفتح)): وفي نقل الإجماع نظر ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع على نقيضه واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب والآثار في ذلك كثيرة جداً.
          وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم، ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفى فيها بأدنى نظر بخلاف ما قرروه، ومع ذلك فقول الله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وحديث: (كل مولود يولد على الفطرة): ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها.