الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الدين يسر

          ░29▒ (بَابٌ): بالتنوين وعدمه، وسقط الباب للأصيلي (الدِّينُ): أي: دين الإسلام؛ لأنه الدين المعهود بالحقية (يُسْرٌ): _بضم السين، وإسكانها_ نقيض العسر، ومعناه: التخفيف؛ أي: ذو يسر بالنسبة لسائر الأديان قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، أو ميسر من إطلاق المصدر على المفعول أو جعل الدين يسراً مبالغة كقول بعضهم في النبي صلعم أنه الرحمة مستدلاً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
          فرفع الله تعالى عن هذه الأمة ببركته صلعم الإصر الذي كان من قبلهم، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم، وإرضاء الخصم إذا كان الحق لآدمي، وهذه الترجمة بعض الحديث المرفوع في الباب.
          (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلعم): بجر (قولِ) عطفاً على محل الجملة المضاف إليها (باب)، وبرفعه كما في فرع اليونينية عطفاً عليها على تنوين باب أو عطف على باب أو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: وارد أو ثابت (أَحَبُّ الدِّينِ): أي: أفضل الأديان فاللام للجنس (إِلَى اللَّهِ): تعالى (الْحَنِيفِيَّةُ): أي: الملة المنسوبة إلى الحنيف، وهو المائل عن الباطل / إلى الحق (السَّمْحَةُ): أي: السهلة إذا المسامحة المساهلة، والملة السمحة: التي لا حرج فيها ولا تضييق فيها على الناس؛ أي: ملة الإسلام، ويحتمل أنت تكون اللام للعهد، ويراد بالملة الحنيفية: الملة الإبراهيمية اقتباساً من قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135]؛ لأنه مال عن عبادة الأوثان.
          ومعناه: بعثت بالملة الإبراهيمية التي مبناها على السهولة والسماحةِ المخالفة لأديان بني إسرائيل، وما يتكلفه أحبارهم ورهبانهم من الشدائد فأحب للتفضيل بمعنى المحبوب، ولا يرد أنه لا تطابق بين المبتدأ والخبر؛ لأنه مؤنث، والمبتدأ مذكر؛ لأن الحنيفية كانت غلبت عليها الاسمية حتى صارت علماً أو لأن أفعل التفضيل المضاف يجوز فيه المطابقة وعدمها.
          قال الكرماني: فإن قلت: فيلزم أن يكون الملة ديناً، وأن تكون سائر الأديان محبوبة، وهما بإطلاق إذ المفهوم من الملة غير المفهوم من الدين، وأن سائر الأديان منسوخة.
          قلت: اللازم الأول قد يلتزم، وأما الثاني: فموقوف على تفسير المحبة أو المراد بالدين الطاعة.
          وقال في ((الفتح)): أي: خصال الدين كلها محبوبة لكن ما كان منها سمحاً؛ أي: سهلاً فهو أحب إلى الله تعالى، ويدل عليه ما أخرجه أحمد بن حنبل بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه: أنه سمع رسول الله صلعم، وهو يقول: (خير دينكم أيسره) أو الدين جنس؛ أي: أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية، والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخَ، وبهذا يندفع قول الكرماني: فإن قلت: يلزم أن تكون سائر الأديان محبوبة...إلخ، و(الحنيفية): ملة إبراهيم ◙، والحنيف في اللغة: ما كان على ملة إبراهيم، وسمي إبراهيم حنيفاً لميله عن الباطل إلى الحق؛ لأن أصل الحنف الميل و(السمحة): السهلة؛ لأنها مبنية على السهولة لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
          وهذا الحديث المعلق لم يسنده المصنف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب (الأدب المفرد) وكذا وصله أحمد بن حنبل عن ابن عباس بسند حسن.
          واستعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصراً عن شرطه وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر.
          ومقصود الترجمة كما قال ابن بطال: أن الدين يقع على الأعمال؛ لأن الذي يتصف بالعسر واليسر إنما هو الأعمال دون التصديق، ولذلك قال في الحديث الآتي: (وشيء من الدلجة)، وهو سير الليل كله؛ لأن العمل بالليل كله أشق.