الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا

          ░22▒ (باب): بالتنوين، وسقط للأصيلي (الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ): مبتدأ وخبر، والمعاصي: جمع معصية، وهي ما خالف الشرع بترك واجب أو فعل حرام كبيرة كانت، ولو كفراً أو صغيرة، والجاهلية زمان الفترة قبل الإسلام، سمي بذلك لكثرة الجهالة فيه (ولاَ يُكَفَّرُ): بفتح التحتية، وإسكان الكاف، وضم الفاء لأبي الوقت، ورواه غيره: <ولا يكفَّر> بتشديد الفاء مبنياً للمفعول (صَاحِبُهَا): فاعل أو نائبه؛ أي: متعاطيها (بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ): أي: الكفر بالله بشرك أو غيره خلافاً للخوارج قبحهم الله القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة، وللمعتزلة القائلين بأنه بارتكابها يصير له منزلة بين الكفر والإيمان، واحترز بارتكابها عن اعتقاد حلها، فإنه يكفر بذلك قطعاً إذا كانت حرمتها معلومة من الدين بالضرورة فتنبه إلا بالشرك مستثنى من بارتكابها استثناء متصلاً فيحتاج إلى تقدير مضاف.
          ولذا قال الكرماني: أي: إلا بارتكاب الشرك حتى يصح الاستثناء من الارتكاب، والارتكاب مجاز عن الإتيان بها، فغرض البخاري بالترجمة كما قال ابن بطال: الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، وعلى من يقول: إن من مات على ذلك يخلد في النار، وذلك (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ): الخطاب لأبي ذر، وقال الكرماني في به نظر؛ لأن التعيير بأمه صغيرة وهم لا يكفرون بها بلا نزاع.
          وأجاب في ((الفتح)): بأن غرض البخاري بذكره الاستدلال على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج بها عن الإيمان سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
          وأما الآية فهي ترد عليهم لأن المراد بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48] من مات على كل ذنب سوى الشرك.
          وأجاب العيني بادعاء أنها معصية عظيمة، فلهذا أنكر عليه أشد الإنكار.
          ولئن سلمنا أنها صغيرة فهي بالنسبة إلى ما فوقها، وأما إلى ما دونها فهي كبيرة. انتهى.
          وأقول: لكنه لا يوافق مذهبنا إن وافق مذهبهم، وقول الكرماني وإن تبعه البرماوي: إن الصغيرة لا يكفرون بها بلا نزاع ينازع فيه.
          قول السعد والدواني: إن مرتكب الذنب عند الخوارج مطلقاً كبيراً أو صغيراً يكفر بذلك اللهم إلا أن يكون هذا مذهباً لبعضهم أو يكون المراد إذا أصر على الصغيرة فتأمل.
          أي: فيك شيء من أخلاق الجاهلية، ففي استدلاله بالحديث والآية لف ونشر مرتب.
          قال ابن المنير: تلطف البخاري في القول؛ لأنه لما قرر بالتراجم المتقدمة أن الطاعات داخلة في مسمى الإيمان، وأبعاض له توقع أن يقال: لو كان كذلك لكانت المعاصي أبعاضاً للكفر، ولكان العاصي كافراً كفراناً ناقصاً، فقرر أن المعاصي تدخل في مسمى الجاهلية، والجاهلية كانت كفراً، ولهذا يقال لمن خالف بعض المخالفة: فيك جاهلية، وكأن إطلاق الكفر على الإيمان إنما منعه الله فضلاً منه؛ لأن رحمته سبقت غضبه، فوسع في باب الرحمة، وفسح في إطلاق الطاعات على الإيمان ولم يفسح في باب الغضب فلم يأذن في إطلاق الكفر على الإيمان وإن كانت شعباً له وعلامات له ويخشى منها التدرع إليه. انتهى.
          ونظر فيه في ((المصابيح)): بأن الشارع سمى آثار الكفر كفراً كما سمى آثار التصديق إيماناً في قوله: (من رغب عن الله فقد كفر)، (اثنان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة)، (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وإن كانت هذه الأفعال من آثار الكفر؛ لأن الكافر لا يبالي ما فعل إذ لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً فيكثر إقدامه على المعاصي والمخالفات. انتهى.
          وأقول: مراده بقوله: لم يأذن في إطلاق الكفر على الإيمان إذناً مطلقاً، / وإنما أذن إذناً مقيداً بدليل ما نقلناه عنه في الترجمة السابقة فاعرفه وتأمل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بالجر دليل ثان، وللأصيلي: <╡>، ولأبي ذر عن الكشميهني: <وقال الله تعالى> ({إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]): أي: يكفر به ولو بتكذيب نبيه؛ لأن من جحد نبوة محمد صلعم مثلاً فهو كافر ولو لم يجعل مع الله إلهاً آخر، والمغفرة منفية عنه بلا خلاف.
          وقال البيضاوي: لأنه بت الحكم على خلود عذابه، ولأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره ({وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]): أي: ما دون الشرك صغيراً كان أو كبيراً.
          ({لِمَنْ يَشَاءُ}): مغفرة ذنوبه من غير توبة تفضلاً عليه فهو متعلق بالثاني فقط للإجماع على أن الشرك لا يغفر أصلاً شرعاً، وإن جاز عقلاً.
          وقال البيضاوي: والمعتزلة علقوه بالفعلين على معنى أن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو من لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب، وفيه تقييد بلا دليل إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه، ونقضٌ لمذهبهم، فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها، فالآية كما هي حجة عليهم فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك، وأن صاحبه خالد في النار. انتهى.
          وقال الكرماني: فإن قلت: المفهوم من الآية أن مرتكب الشرك لا يغفر له لا أنه يكفر، والترجمة إنما هي في الكفر لا في الغفر قلت: الكفر وعدم الغفر عندنا متلازمان. انتهى.
          تنبيه: سبب نزول هذه الآية قصة وحشي قاتل حمزة ☻ على ما ذكر في التفسير.