الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب دعاؤكم إيمانكم

           ░2▒ (بَابٌ): بالتنوين ({دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]: إِيمَانُكُمْ): ثبت في نسخة عليها خط قطب الدين الحلبي كما رآه العيني وزاده القسطلاني في اليونينية وفرعها.
          وقال في ((التوضيح)): قد يقع في كثير من نسخ البخاري هنا: <باب: {دُعَاؤُكُمْ}: إيمانكم>، قال: ثم ساق حديث ابن عمر السابق وعليه مشى شيخنا في ((شرحه)) وليس بجيد؛ لأنه ليس مطابقاً للترجمة.
          وقال النووي: اعلم أنه يقع في كثير من النسخ هنا: (باب: {دُعَاؤُكُمْ}: إيمانكم) إلى آخره وهو غلط فاحش والصواب حذفه لوجوه منها: أنه ليس له تعلق بما نحن فيه.
          ومنها: أنه ترجم أولاً، لقوله ◙: (بني الإسلام على خمس) ولم يذكره قبل هذا وإنما ذكره بعده.
          ومنها: أنه ذكر الحديث بعده وليس مطابقاً للترجمة.
          وقال في ((الفتح)) بعد كلام النووي قلت: ثبت: <باب> في كثير من الروايات المتصلة منها رواية أبي ذر يمكن توجيهه، لكن قال الكرماني: أنه وقف على نسخة مسموعة على الفربري بحذفه، وعلى هذا فقوله: ({دُعَاؤُكُمْ}: إيمانكم) من قول ابن عباس، وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف حيث ينقل التفسير. انتهى.
          وأقول: قد يؤخذ من كلام الكرماني نسخة ثالثة وهي: (و {دُعَاؤُكُمْ}: إيمانكم): بالواو العاطفة على ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا})، فيكون تعليقاً من تفسير ابن عباس، فإنه قال: وعندنا نسخة مسموعة على الفربري وعليها خطه هو هكذا ({دُعَاؤُكُمْ}: إيمانكم) بلا باب وبلا واو انتهى. فتأمل.
          وقد وصله ابن جرير عنه قال في قوله تعالى: ({قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّيْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]): يقول: (لولا إيمانكم) وأقول: جواب {لَوْلَا} محذوف يدل عليه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} يعني: لولا إيمانكم لا يعتد بكم، من عبأت به: اعتددت به.
          قال في ((الفتح)): أخبر الله الكفار أنه لا يعبأ بهم ولولا إيمان المؤمنين لم يعبأ بهم أيضاً، ووجه الدلالة للمصنف: أن الدعاء عمل، وقد أطلقه على الإيمان فيصح إطلاق: أن الإيمان عمل وهذا على تفسير ابن عباس، وقال غيره: الدعاء هنا مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد: دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان، فالمعنى: ليس لكم عند الله قدر إلا أن يدعوكم الرسول فيؤمن من آمن ويكفر من كفر فقد كذبتم أنتم فسوف يكون العذاب لازماً لكم انتهى.
          وليتأمل للمراد من قوله: أخبر الله الكفار أنه لا يعبأ بهم، و({مَا}) مصدرية متضمنة لمعنى الاستفهام في محل نصب على المفعولية المطلقة ليعبأ؛ أيْ: أيُّ عبء يعبأ بكم لولا إيمانكم، ويجوز أن تكون نافية كما في ((الكشاف)).
          وقد أشار إلى الوجهين في ({مَا}) وإلى كون الدعاء بمعنى العبادة البيضاوي.
          فإنه قال: ما يصنع بكم من عبأت الجيش: إذا هيأته ولا يعتد بكم {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}: لولا عبادتكم، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء، وقيل: معناه: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهةً و({مَا}) إن جعلت استفهامية فمحلها النصب على المصدر كأنه قيل: أي عناء يعبأ بكم فقد كذبتم بما أخبرتكم به حيث خالفتموه، وقيل: / قد قصرتم في العبادة من قولهم: كذب القتال: إذا لم يبالغ فيه، وقرئ: ▬فقد كذب الكافرون↨؛ أي: الكافر منكم؛ لأن توجه الخطاب إلى الناس عامة لما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]: يكون جزاء التكذيب لازماً يحيق بكم لا محالة أو أثره لازماً بكم حتى يكبكم في النار، وإنما أضمر من غير ذكر للتهويل، والتنبيه على أنه مما لا يكتنهه الوصف، وقيل: المراد: قتل يوم بدر وأنه لوزم بين القتلى لزاماً وقرئ: ▬لَزَاماً↨ بمعنى اللزوم، كالثبات والثبوت. انتهى.
          ويؤيد كون الدعاء بمعنى العبادة كما في ((الفتح)) ما رواه أصحاب ((السنن)) بسند جيد من حديث النعمان بن بشير: (الدعاء هو العبادة).
          وقال ابن بطال: معنى قول ابن عباس: لولا دعاؤكم الذي هو زيادة في إيمانكم، وفي العيني: وقال ابن بطال: لولا دعاؤكم الذي هو زيادة إيمانكم.
          قال النووي: وهذا الذي قاله حسن، لأن أصل الدعاء: النداء والاستغاثة.
          ففي ((الجامع)) سئل ثعلب عنه فقال: هو النداء، ويقال: دعاء إليه فلان يدعوه فاستجاب له، وقال ابن سيده: هو الرغبة إلى الله تعالى، يقال: دعاه دعاءً ودعوى حكاهما سيبويه.
          وفي (الغريبين): الدعاء: الغوث، وقد دعى: استغاث، قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال بعض الشارحين: قال البخاري: ومعنى الدعاء في اللغة: الإيمان، ينبغي أن يثبت فيه فإني لم أره عند أحد من أهل اللغة، انتهى.
          وقال الكرماني في (تفسيره) في الآيتين يدل على أنه قابل بالزيادة والنقصان، أو أنه سمى الدعاء إيماناً والدعاء عمل، انتهى.
          وقال العيني: واعلم أن من قوله: (وقال ابن مسعود): إلى هنا غير ظاهر الدلالة على الدعوى وهو موضع بحث ونظر، انتهى.
          وفي الآية وجوه أخر للمفسرين ذكرها البغوي فقيل: ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، وقال: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] وقيل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، يقول: ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسلوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم فقد كذبتم أيها الكافرون، فخاطب أهل مكة، يعني: أن الله تعالى دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه، {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] هذا تهديد لهم؛ أي: يكون تكذيبكم لزوماً.
          وقال ابن عباس: موتاً، وقال أبو عبيدة: هلاكاً، وقال ابن زيد: قتالا، وقال ابن جريج: عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً معيناً يلحق بعضكم بعضاً، وقال قوم: معناه: قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه يعني: أنه خلقكم لعبادته، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد. انتهى.
          وهذا وإن تقدم في كلام البيضاوي و((الفتح)) لكنه لم يتقدم نسبته إلى ابن عباس ومجاهد، ولعله رواية عن ابن عباس فلا ينافي ما نقله البخاري عنه، من أن المراد به الإيمان خاصة، فافهم.