الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة

          ░37▒ (بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ): من إضافة المصدر إلى فاعله، والنبي مفعوله على حد {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ} [البقرة:251] (صلعم): وعليه (عَنِ الإِيمَانِ): متعلق بالمصدر / (وَالإِسْلاَمِ وَالإِحْسَانِ): ويأتي تفسيرها (وَ عِلْمِ السَّاعَةِ): أي: علم وقتها؛ لأن السؤال إنما هو عن وقتها بقرينة ذكر متى لا عن نفسها، فاندفع ما قيل السؤال ليس عن علمها بل عن الوقت؛ لأنه قال: متى، والساعة القيامة سميت بذلك لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها فهو تمليح كما يقال في الأسود: كافور أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق.
          (وَبَيَانِ): عطف على (سؤال) أو على (علم) (النَّبِيِّ): من إضافة المصدر إلى فاعله (صلعم لَهُ): أي: للمذكور؛ أي: من (الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة) إما لأن بيان أشراطها بيان لها في الجملة أو لمعظمه فلا ترد الساعة أو لأن قوله: (لا يعلمها إلا الله): بيان لها، ويحتمل رجوع ضمير (له) لجبريل فافهم.
          (ثُمَّ قَالَ): أي: صلعم، وعطف الجملة الفعلية على الاسمية المركبة من المبتدأ المحذوف، وباب الواقع خبره؛ لأن الأسلوب يتغير بتغير المقصود؛ لأن المقصود من الجملة الأولى: الترجمة، ومن الثانية: الاستدلال على جعله (ديناً) فلتغاير المقصودَينِ تغاير الأسلوبان.
          (جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ فَجَعَلَ): أي: النبي صلعم (ذَلِكَ كُلَّهُ دِيناً): يدخل فيه اعتقادُ وجود الساعة وعدمِ العلم بوقتها لغير الله تعالى؛ لأنهما من الدِّين أو أعطي للأكثر حكم الكل مجازاً.
          (وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلعم): (ما) مصدرية أو موصول اسمي و(بيَّن) بالتشديد صلتها أو الواوُ واوُ المفعول معه (لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ): الوفد: الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لُقِيِّ العظماء واحدهم وافد وعبد القيس: قبيلة عظيمة من قبائل العرب.
          (مِنَ الإِيمَانِ): أي: الذي هو الإسلام (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): بالجر، وفي رواية أبي ذر: <وقول الله تعالى>، وللأصيلي: <╡> في سورة آل عمران ({وَمَنْ يَبْتَغِ}): ({من}) شرطية و({يَبْتَغِ}) بمعنى: يطلب.
          قال في ((الكشاف)): وقرئ {يَبْتَغِ غَيْرَ} بالإدغام.
          و{غَيْرَ الإِسْلاَمِ} مفعوله ومضاف إليه، و{دِينًا} حال لكونه بمعنى متديناً به أو مفعول لأجله؛ لأنه يستعمل مصدراً.
          وقال المولى أبو السعود: {دِينًا} مفعول {يَبْتَغِ}و{غَيْرَ الإِسْلاَمِ} حال منه؛ لأنه كان صفة له، فلما قدم عليه انتصب حالاً أو هو المفعول، و{ديناً} تمييز لما فيه من الإبهام أو بدل من {غَيْرَ الإِسْلاَمِ}. انتهى.
          ({غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]): جواب الشرط؛ لأن المرضي عند الله تعالى هو دين الإسلام لا غيره.
          قال البغوي: نزلت في اثني عشر رجلاً ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة، وأتوا مكة كفاراً منهم: الحارث بن سويد الأنصاري، وتتمة الآية: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
          قال البيضاوي: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا}؛ أي: غير التوحيد والانقياد لحكم الله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] الواقعين في الخسران، والمعنى: أنّ المعرض عن الإسلام والطالبَ لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فَطر الناس عليها، واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل، والجواب: أنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره، ولعل الدين أيضاً الأعمال.
          تنبيه: تقدم أن المصنف يرى أن الإيمان والإسلام والدين عبارة عن معنى واحد، ولما كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، وجوابه يَقتضي تغايرهما أراد أن يَرُدّ ذلك بالتأويل إلى طريقته ومذهبه، فقوله: (وبيان النبي صلعم إلى آخره)؛ أي: باب سؤال جبريل مع بيان أن الاعتقاد والعمل دين، وقوله: (وما بين... إلخ) مع (ما بين النبي) صلعم للوفد أن الإيمان هو الإسلام حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا وقوله: (وقولِ الله... إلخ): أي: مع ما دلت عليه الآية من أن الإسلام هو الدين، ودل عليه خبر أبي سفيان من أن الإيمان هو الدين.
          وقال الكرماني: وإنما ضم إلى الترجمة: (وما بين إلخ)؛ لأن / الترجمة لم تدلّ على أن الإيمان الإسلامُ بل على أن الكل هو الدين، فأراد الاستعانة في تفهيم مراده، والتقوية له بحديث الوفد إلخ ما في الكرماني.
          وقال البغوي: جعل ◙ الإسلام اسماً لما ظهر إلى آخر ما في الكرماني.
          فدل ذلك على أن الإيمان والإسلام والدين واحد، وهذا مراد البخاري ومذهبه.
          ونقل أبو عَوانة الإسفراييني في ((صحيحه)) عن المزني صاحب الشافعي الجزم بأن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك من الشافعي، وعن أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل أدلة متعارضة.
          وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان وأكثرا من الأدلة للقولين، والحق أن بينهما عموماً وخصوصاً يعني: فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، ومقتضاه أنه لا يطلق الإسلام على العمل والاعتقاد معاً.
          قال الخطابي: وإذا تقرر هذا استقام تأويله الآيات والأحاديث، واعتدل القول فيها، وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام، فقد يكون المرء مسلماً؛ أي: منقاداً في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر.
          قال الكرماني عن الخطابي: وهذا الكلام يقتضي أن بينهما خصوصاً وجهياً، وبذلك صرح ابن الصلاح فقال: ما في الحديث بيانٌ لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن ولأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقيادُ الظاهر، ثم إن اسم الإيمان يتناول الإسلام وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق إلى آخر ما في الكرماني.
          قال في ((الفتح)): ويرد عليه قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3] فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معاً؛ لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي عند الله.
          والذي يظهر من مجموع الأدلة: أن لكل منهما حقيقةً شرعية كما أن لكل منهما حقيقةً لغوية لكن كل منهما مستلزم للآخر على سبيل التكميل لهُ، فكما أن العامل لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد فكذلك المعتقد لا يكون مؤمناً كاملاً إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس أو يطلق أحدهما عليهما معاً فهو على سبيل المجاز، ويتبين المراد بالسياق فإن وردا في مقام السؤال أمكن الحمل على الحقيقة، وإن لم يردا معاً أو لم يكن في مقام السؤال أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز بحسب القرائن.
          وقد حكى الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمد بن نصر، وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر أنهم سووا بينهما على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي، وابن السمعاني عن أهل السنة أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل. انتهى مفرقاً.
          وأقول: يرد على قوله: لكن كل منهما...إلخ: أن العامل لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد... إلخ، فإنه يفيد أن العامل يكون مسلماً غير كامل إذا لم يعتقد مع أنه لا يكون مسلماً أصلاً إذا لم يعتقد بخلاف العكس، فإنه صحيح مع أنه نقل قريباً عن البغوي أنه لا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إليه ولم يعترضه.
          وأقول: ويرد على ما قاله من أن كلاً منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له أن استلزامه ليس كذلك بل على سبيل الشرطية أو الركنية، فافهم.
          والذي قاله غيره _كالسعد_: أنه لا يتحقق أحدهما بدون الآخر شرعاً بحسب الما صدق وإن تحقق أحدهما بدون الآخر بحسب المفهوم، فتأمل.