الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة من الإيمان

          ░30▒ (بَابٌ): بالتنوين وعدمه.
          وجه المناسبة بين البابين: أن الصلوات الخمس أفضل طاعات البدن وهي تقام في هذه الأوقات الثلاثة فالصبح في الغدوة والعصران في الروحة والعشاءان في جزء من الدلجة عند من يقول: أنها سير الليل كله، وسقط الباب للأصيلي.
          (الصَّلاَةُ مِنَ الإِيمَانِ): أي: الصلاة الشرعية من شعب الإيمان (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى)، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: <╡> وكل فيه الرفع والجر على ما مر في الباب قبله ({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]): بالخطاب التفاتاً من الغيبة لتقدم: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ} [البقرة:143]؛ لأنه لما قصد تعميم الحكم للأحياء والأموات ذكر الأحياء المخاطبين تغليباً لهم على غيرهم (يَعْنِي صَلاَتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ): أي: الحرام؛ لأنه المراد عند الإطلاق، والمراد صلاتكم عند الكعبة.
          هذا التفسير الذي ذكره البخاري للإيمان في الآية أحد ما قيل فيها:
          فقد قال البيضاوي: أي: ثباتكم على الإيمان.
          وقيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة أو صلاتكم إليها لما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وجه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت. انتهى.
          قال الكرماني: فإن قلت: هل فرق من جهة علم المعاني بين أن يقال: ما يضيع الله إيمانكم وبين ما عليه التلاوة من القرآن العظيم؟ قلت: الفرق بالتأكيد وعدمه.
          ولفظ: (عِنْدَ البَيْتِ) ثابت في جميع الروايات لكنه كما قال النووي: مشكل؛ لأن المراد صلاتكم إلى بيت المقدس، وكان ينبغي أن يقول: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا هو مراده فليتأول كلامه عليه، وقال الكرماني: ولعل مراد البخاري بقوله: (عند البيت) مكة؛ أي: صلاتكم بمكة، وكانت إلى بيت المقدس، وقال في ((المصابيح)): كذا وقع في الأصول.
          قال السفاقسي: يريد بيت المقدس، قلت: لفظة (عند) تدفعه، والصواب كما قطع به بعضهم: إلى بيت المقدس.انتهى.
          وكذا رواه الطيالسي والنسائي عن البراء بلفظ: فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]: صلاتكم إلى بيت المقدس.
          وقال في ((الفتح)): ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت، ولذا قيل: إنه تصحيف وأن الصواب: يعني: صلاتكم لغير البيت.
          قال: وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب، ومقاصد البخاري دقيقة، وذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلعم يتوجه إليها للصلاة بمكة، فقال ابن عباس وغيره: هي بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون: أنه كان يصلى إلى بيت المقدس، وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف، ويلزم منه النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع بين القولين، وصححه الحاكم وغيره، فكأن البخاري أراد الإشارة إلى الأصح من الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاءً بالأولوية؛ لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني: صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى البيت المقدس. انتهى.
          قال في ((الفتح)): في هذا الباب عند قوله: (إذ كان يصلي قبل بيت المقدس) حكى الزهري خلافاً في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟، وعلى الأول: فكان يجعل المِيزابَ خلف ظهره.
          وعلى الثاني: كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة / استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن البر هذا على القول الثاني ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي طرقه أن ذلك كان عند باب البيت. انتهى.
          وحكى العيني كلام الحافظ هنا، وأخذ منه جوابه فنسبه إليه، واعترض على قوله، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية إلخ بأنه كلام يحتاج إلى دعامة؛ لأن دعواه بقوله: واقتصر...إلخ ثم تعليله لا تعلق له ببيان تصحيح قول البخاري: (عند البيت)، واعترض أيضاً على تسليمه قول من قال بأن فيه تصحيفاً بأن قائله لا وقوف عنده على معنى التصحيف، وهو تصحيف لفظ بلفظ وهذا ليس كذلك.
          قال الصغاني: التصحيف الخطأ في الصحيفة.
          وأجاب في (الانتقاض): بأنه مراد القائل؛ لأن لفظة غير تصحيف بلفظة (عند) وأنه لا بد في تعريف التصحيف من زيادة على ما ذكره هنا، وهو تخصيصه بلفظه يقاربه في الخط، وأما التعميم الذي ذكره العيني في التصحيف فليس بصحيح وإلا لكان كل لفظ تغير بآخر يسمى تصحيفاً وليس كذلك عرفاً فعرفت أنه هو الذي ما عرف المراد بالتصحيف. انتهى.