الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة

          ░19▒ (باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ): بإضافة باب إلى إذا إن كانت لمجرد الظرفية؛ أي: باب وقت عدم كون الإسلام (عَلَى الْحَقِيقَةِ) وبالتنوين إن جعلت إذا متضمنة للشرط والجزاء محذوف للعلم به؛ أي: لا يعتد به أو لا ينجيه في الآخرة، ولا يرد على الثاني أن إذا للمستقبل ولم للماضي فكيف يجتمعان؛ لأن إذا تقلب الماضي مستقبلاً.
          وقال الكرماني: ويحتمل أن يقال: لم لنفي الكون المقلوب ماضياً، وإذا لاستقبال ذلك النفي، فافهم.
          وقوله: (يكن) تامة أو ناقصة والحقيقة هي الشرعية لأنها المعتبرة.
          قال في ((الفتح)): ومحصل ما ذكره، واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله تعالى وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19].
          (وكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلاَمِ): معطوف على لم يكن أو للحال؛ / أي: الانقياد الظاهر فقط (أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ) عطفه على الاستسلام من عطف الخاص على العام اهتماماً به لأن بقاء النفس أهم.
          قال العيني: و(على) للتعليل (لِقَوْلِهِ تَعَالَى): متعلق بالجواب المحذوف، ولأبي ذر والأصيلي: <╡> ({قَالَتِ الأَعْرَابُ} [الحجرات:14]): أي: أهل البدو مطلقاً أو من العرب ولا واحد له من لفظه ({آمَنَّا}): أي: دخلنا في الإيمان بزعمهم واللام للعهد؛ لأنها كما قال البغوي: نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله في سنة جدب فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين سراً، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وغلوا الأسعار وكأنَّ يقولون لرسول الله: أتتك العرب بأنفسها وأتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلتك بنو فلان وفلان يريدون الصدقة ويمنون عليه.
          وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم: جهينة ومزينة وأسلم وأجمع وغفار، كانوا يقولون: آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
          فقال الله تعالى: ({قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}): أي: الإيمان الشرعي على الحقيقة؛ لأنه التصديق بما جاء به النبي صلعم مع التلفظ بالشهادتين ركناً كما عليه البخاري ومن وافقه أو شرطاً كما عليه غيره.
          ({وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}): أي: دخلنا في السلم وهو الاستسلام، قاله في ((الصحاح)).
          أي: استسلمنا وأنقذنا بالنطق بالشهادتين مخافة القتل أو السبي دون مواطأة للقلب فإنه إسلام فقط، ومن ثم نفى عنهم الإيمان بقوله: ({قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا}) فإن كان معه مواطأة القلب فهو إيمان.
          وروى ابن أبي شيبة عن أنس رفعه: (الإسلام علانية والإيمان في القلب) ثم يشير بيده إلى صدره: (التقوى هاهنا) لكنه غير محفوظ كما قال ابن عدي.
          قال في ((الكشاف)): فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا؛ أي: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم.
          قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً ودفع ما انتحلوه، فقيل: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] انتهى.
          وفي الآية كما قال أبو بكر بن الطيب حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة في قولهم: إن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] ويكفي في الرد عليهم الإجماع والنص القرآني على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع كونهم يظهرون الشهادة.
          (فَإِذَا كَانَ): أي: الإسلام (عَلَى الْحَقِيقَةِ): وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله (فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ): أي: جارٍ ووارد على وفق قوله جل ذكره: ({إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19]): بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة لقوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:19].
          وقرأ الكسائي: ▬أن↨ بالفتح على أنه بدل كل من كل إن فسر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه، وبدل اشتمال إن فسر بالشرطية، وقرأ أبي بن كعب: ▬إن الدين عند الله للإسلام↨ بلام التأكيد في خبر إن المكسورة، والجملة مفيدة للحصر؛ أي: لا دين مرضي عند الله ╡ إلا الإسلام وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلعم.
          وقد استدل البخاري بهذه الآية على أن الإسلام الحقيقي هو الدين، وعلى أن الإسلام والإيمان مترادفان، ويستفاد منه ترادف الثلاثة عنده، وهو قول جماعة من المحدثين وجمهور المعتزلة، والمتكلمين مستدلين أيضاً بنحو قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36].
          والأصل في الاستثناء: الاتصال لكن استشكل بآية: {قالت الأعراب آمنا}.
          وأجيب: بأن الإسلام المعتبر شرعاً / لا يوجد بدون الإيمان وبالعكس لكنه في الآية بمعنى الانقياد الظاهر فقط كما مر.
          ثم استدل بآية أخرى على ما في بعض النسخ من إثباتها بقوله: ({وَمَن يَبْتَغِ}): مجزوم بحذف الياء شرط مَنْ مُجَرَّدُهُ بغيت الشيءَ طلبته بغية وبغاء _بالضم_ فيهما وبغاية، وقرئ: ▬ومن يبتغي غير↨ بالإدغام كما في ((الكشاف))؛ أي: يطلب.
          ({غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا} [آل عمران:85]): أي: غير التوحيد والانقياد لحكم الله ╡ (فلن يقبل منه): جواب (مَنْ) ووجه استدلاله على ذلك أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً ولكان صاحبه في الآخرة من الخاسرين فيتعين أن يكون عيَّنه؛ لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام فينتج أن الإيمان هو الإسلام وسقطت <الآية> للكشميهني والحموي.