الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب كفران العشير وكفر دون كفر

          ░21▒ (باب): بالإضافة (كُفْرَانِ): بضم الكاف مصدر كفر بمعنى ستر.
          وفي ((القاموس)): الكُفر _بالضم_ ضد الإيمان، وبفتح كالكفر، والكفران بضمهما، وكفر نعمة الله وبها كفوراً وكفراناً جحدها وسترها. انتهى.
          وفي ((العباب)): الكفر نقيض الإيمان، وقد كفر بالله كفراً، والكفر أيضاً جحود النعمة، وهو ضد الشكر، وأصل الكفر التغطية، وقد كفرت الشيء أكفِره بالكسر كفراً بالفتح؛ أي: سترته وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره، ومنه الكافر لأنه يستر توحيد الله أو نعمة الله، ويقال للزارع: الكافر لأنه يغطي البذر تحت التراب ورماد مكفور إذا سفت الريح التراب عليه حتى غطته، وبما تقرر يظهر ما في كلام العيني من النظر في قوله، والفرق بين الكفر والكفران، الكفر في الدين، والكفران في النعمة. انتهى.
          اللهم إلا أن يكون هذا اصطلاحاً لبعضهم، ثم رأيت القسطلاني نقله عن الأكثرين لكن المصنف لم يجر عليه أيضاً حيث جمع بينهما، وهما بمعنى كفر النعمة فتأمل.
          (الْعَشِيرِ): فعيل بمعنى المعاشر؛ أي: المخالط أو الملازم، والمراد به الزوج لدلالة السياق عليه أو الأعم / (وكُفْرٍ دون كُفْرٍ): كذا للأربعة، وأصل السميساطي؛ أي: كفر أحط من كفر وأقل إثماً منه، وفي (اليونينية) وفرعها: (وكفر بعد كفر)، وهي بمعنى الأولى؛ أي: بعده في الرتبة والإثم، وجمهور الرواة على جر وكفر عطفاً على كفران، ورفعه أبو ذر والوقت عطفاً على باب، وقول القسطلاني على القطع لا يخلو من شيء.
          قال في ((الفتح)): وأما قول المصنف: وكفر دون كفر، فأشار بذلك إلى أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من طريق عطاء بن أبي رباح. انتهى.
          تنبيه: نقل ابن الملقن والعيني عن الأزهري أن الكفر المطلق بالله أنواع أربعة إنكار وجحود وعناد ونفاق من لقي الله بواحد منها لم يغفر له. انتهى، وسيأتي قريباً تفصيلها.
          وقال النووي: واعلم أن الشرع أطلق الكفر على ما سوى الأربعة وهو كفران الحقوق والنعم فمن ذلك هذا الحديث، وحديث مسلم: (إذا أبق العبد من مواليه فقد كفر).
          وحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وأشباه ذلك.
          وهذا مراد البخاري بقوله: (وكفر دون كفر) أخذاً من الحديث المرفوع من قوله: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان) ومن حديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) المار.
          قال في ((المصابيح)) نقلاً عن ابن المنير: هذه الترجمة ونحوها تشتمل على مقصودين: أحدهما: أن المعاصي لا توجب تخليد العصاة في النار ولا إلحاقهم بالكفار.
          الثاني: وهو أهمهما أن الكفر يتبعض كما يتبعض الإيمان، ومقصود البخاري أن يدل لصحة مذهبه في أن الإيمان يتبعض، ويلزم مثله في الكفر وإن كنا لا نجيز أن نطلق على العاصي كافراً إلا كفراً مقيداً كقوله: يكفرن العشير، ويجوز أن يطلق الإيمان على بعضه من غير تقييد. انتهى.
          وقال ابن العربي في ((شرحه)): وخص المؤلف كفران العشير بالذكر مع اندراجه في وكفر دون كفر لدقيقة بديعة، وهي قوله صلعم: (لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله تعالى، فإذا كفرت المرأة حق زوجها، وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلاً على تهاونها بحق الله ╡، فلذلك أطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج عن الملة.
          وأقول: وأيضاً خصه في الترجمة للنص عليه في الحديث، وقال أيضاً: مراده أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيماناً كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به الكفر المخرج عن الملة كما مر.
          قال في ((الفتح)): ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان، وذلك من جهة أن الكفر ضد الإيمان. انتهى.
          وأقول: أخذه العيني فبسطه وادعى أنه لم ير شارحاً ذكر هذه المناسبة كما ينبغي وأن الوجه ما ذكره، وأنه كان ينبغي أن يؤخر هذا الباب وما بعده عن باب الدين النصيحة رعاية للمناسبة الكاملة.
          ونقل عن بعض الشارحين أن البخاري أردف هذا الباب بالذي قبله لينبه على أن المعاصي تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار لأنهم ظنوا أنه الكفر بالله.
          فأجابهم عليه الصلاة والسلام بأنه أراد كفرهن حق أزواجهن، وذلك لا محالة نقص من إيمانهن؛ لأنه يزيد بشكرهن العشير وبأفعال البر، فظهر بهذا أن الأعمال من الإيمان وأنه قول وعمل. انتهى.
          واعلم أن كفران الحقوق والنعم الذي لا يخرج عن الملة أفراده متفاوتة كما أشار إلى ذلك المصنف فأخذ أموال الناس مثلاً بغير حق دون قتل النفس بغيره، وهو بسائر أفراده دون الكفر المخرج عن الملة المحمدية.
          قال الأزهري: الكفر بالله أنواع أربعة: إنكار، وجحود، وعناد، ونفاق، / وهذه الأربعة من لقي الله تعالى بواحد منها لم يغفر له، فالأول: أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].
          الثاني: أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، وهذا ككفر إبليس وبلعام، وأمية بن أبي الصلت.
          والثالث: أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد، وذلك ككفر أبي طالب.
          والرابع: أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين قال: ويكون الكفر بمعنى البراءة كقوله تعالى حكاية عن الشيطان: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم:22] أي: تبرأت.
          قال: وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا، فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه، ويعتقد ذلك بقلبه، لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد ومنازعة الأمر أهله، وشق عصى المسلمين ونحو ذلك. انتهى.
          (فِيهِ): أي: يدخل في الباب الحديث الذي رواه (أبو سَعِيدٍ): أي: الخدري، ولكريمة فيه: <عن أبي سعيد>، ولأبي الوقت زيادة: <الخدري> (عَنِ النَّبِيِّ صلعم): زاد الأصيلي بعد وسلم: <كثيراً>.
          قال في (منحة الباري): وفائدة إثباته بيان تعدد رواية أبي سعيد بذلك. انتهى.
          وأقول: ويحتمل أن يكون صفة لتسليماً مقدراً فافهم.
          وأشار المصنف إلى أن للحديث طريقاً غير التي ساقها هنا وهو ما أخرجه المؤلف في الحيض، وغيره عن أبي سعيد، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام للنساء: (تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير) الحديث.
          وقال ابن العربي: ويحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد من قوله ◙: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس).
          قال في ((الفتح)): والأول أظهر وأجرى على مألوف المصنف، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ: (ويكفر العشير).