الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إفشاء السلام من الإسلام

          ░20▒ (باب): بالتنوين (السَّلامِ): أي: التسليم؛ أي: الابتداء به بأن يقول: السلام عليكم وسلام عليكم، والصحيح أن المعرف أفضل مأخوذ من السلامة فكأن المسلم يقول للمسلم عليه: أنت سالم مني، ومنه الجنة دار السلام، والسلام من أسمائه تعالى بمعنى: ذو السلامة ما يلحق المخلوقين من النقائص (مِنَ الإِسْلاَمِ): والمراد إفشاؤه كما في رواية كريمة على ما في العيني.
          وقال القسطلاني: وفي رواية الأصيلي، وأبي ذر، وابن عساكر: <إفشاء السلام من الإسلام>وهو موافق للمرفوع في قوله: (على من عرفت، ومن لم تعرف) وللموقوف في قوله: وبذل السلام للعالم إذ الإفشاء مصدر أفشى الخبر إذا نشره وأذاعه ومجرده فشا يفشو فشواً، وتقدم الكلام على الحديث المرفوع، ومنه بيان كون السلام من الإسلام في باب إطعام الطعام من الإسلام، وغاير المؤلف بين شيخه تكثراً للطرق مع قصده تعديد شعب الإيمان، فخص كل شعبة بباب تنويهاً بذكرها، والتنويه يحتاج إلى التأكيد، فلذلك غاير بين الترجمتين، وبهذا اندفع ما قيل كأن يمكنه أن يجمع الحكمين في ترجمة واحدة، ويخرج الحديث عن شيخيه معاً.
          وإن أجاب عنه الكرماني باحتمال أن يكون كل من شيخيه أورده في معرض آخر لأنه رده في ((الفتح)) بأنه يتوقف على ثبوت وجود تصنيف مبوب لكل من شيخيه، وبأنه يلزم منه أن البخاري يقلد في التراجم، والشائع عنه أنه هو يستنبط الأحكام من الأحاديث، ويترجم بها ويتفنن في ذلك بما لا يدركه غيره، وبأنه يبقى السؤال بحاله إذ لا يمتنع مع ذلك أن يجمعهما ولو سمعهما متفرقين فافهم.
          (وَقَالَ عَمَّارٌ): بفتح المهملة وتشديد الميم، هو أبو اليقظان ابن ياسر العنْسي _بالنون الساكنة والسين المهملة_ نسبة إلى عنس رهط / الأسود المتنبي أسلم عمار وأبوه وأمه سُمية _بالتصغير_ قديماً، وعذبوا بمكة، فكان النبي صلعم إذا مر بهم قال: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) قتل أبو جهل _لعنه الله_ سمية بمكة فهي أول شهيدة في الإسلام، وأما عمار فقتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين، ودفنه بثيابه حسب ما أوصاه ولم يغسله.
          ونقل في (الاستيعاب) عن أهل الكوفة أنه صُلي عليه، وهو مذهبهم في الشهداء أنهم يصلى عليهم ولا يغسلون.
          ومثلهم المقتول ظلماً فإنه يصلى عليه ولا يغسل، وأما مذهب الشافعية فإن كان شهيد معركة المشركين فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه، ومن عداه من الشهداء يغسلون ويصلى عليهم، هذا وقد نقل العيني عن مسدد أنه لم يكن في المهاجرين أحد أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر ثم رده بأن أبا بكر قد أسلم أبواه.
          وأقول: ويرد على حصره أيضاً عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه من المهاجرين وأبواه مسلمان إذ أمه أم رومان أم عائشة فما قاله مسدد ليس بمسدد فاعرفه، وكانت سن عمار يوم قتل نيفاً وتسعين، فقيل: إحدى وتسعين، وقيل: اثنان وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين سنة، وعلى هذا اقتصر الكرماني.
          (ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ): أي: من وجدن فيه (فَقَدْ): وسقطت للأربعة (جَمَعَ الإِيمَانَ): أي: حاز كماله يجري فيه نظير ما مر غير مرة، وهذا التعليق أخرجه أحمد في كتاب الإيمان من طريق الثوري.
          ورواه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) من طريق شعبة وغيره عن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار بن ياسر، ولفظ شعبة: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان) وهو بالمعنى ومثله لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع.
          قال ابن الملقن: ورواه البغوي في (شرح السنة) عن عمار.
          وقال في ((الفتح)): ورواه الطبراني في (الكبير) بإسناد فيه ضعف، لكن له شواهد عن عمار مرفوعاً.
          (الإِنْصَافُ): بدل أو خبر لمحذوف أو مبتدأ وخبره محذوف.
          قال في ((القاموس)): والإنصاف العدل، والاسم النصف والنصفة محركتين، وانتصف منه استوفى حقه منه كاملاً حتى صار كل على النصف سواء كاستنصف منه.
          (مِنْ نَفْسِكَ): متعلق به كان مقتضى السياق من نفسه ففيه التفات على مذهب السكاكي بأن لم تترك لمولاك ولا لعبيده حقاً واجباً عليك إلا أديته ولا شيئاً مما نهيت عنه إلا اجتنبته (وبَذْلُ السَّلاَمِ): البذْل _بالذال المعجمة الساكنة_ مصدر بذل الشيء يبذُله _بضم الذال المعجمة والكسر_ بمعنى إعطائه والجود به.
          قال في ((المصباح)): بذله بذلاً من باب قتل سمح به وأعطاه وبذله أباحه عن طيب نفس، وفيه استعارة بالكناية وتخييلية أو أصلية.
          (لِلْعَالَمِ): متعلق ببذل؛ أي: لكل الناس، وهو بمعنى المرفوع، لكن يستثنى الكفار فلا يجوز بذل السلام لهم لأدلة تقدمت، وستأتي في السلام (والإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ): أي: في حال الإقتار؛ أي: الفقر يقال: أقتر الرجل افتقر فمن بمعنى في نحو إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، أو بمعنى عند كقوله تعالى: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا} [آل عمران:10] أو بمعنى إلى وحينئذ فلا يرد أن الإقتار بمعنى العدم، فكيف ينفق منه، وقيل: الإقتار القلة فعليه فمن للابتداء أو المصاحبة فافهم هذا.
          وقد قال جماعة منهم أبو الزناد: هذه الثلاث عليها مدار الإسلام، وهي جامعة للخير كله؛ لأن من أنصف من نفسه فيما بينه وبين الله تعالى وفيما بينه وبين الخلق ولم يضيع شيئاً مما لله تعالى عليه ومما للناس بلغ الغاية في الطاعة، وأما بذل السلام للعالم فمعناه بذله للناس كلهم فهو كقوله ◙: (وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم / تعرف).
          وهذا من أعظم مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس ويتضمن التواضع وهو أن لا يرتفع على أحد ولا يحتقر أحداً وإصلاح ما بينه وبين الناس بحيث لا يكون بينه وبين أحد شحناء، ولا أمر يمنع من السلام عليه بسبب كما يقع لكثير من الناس، ففيه الحث على إفشاء السلام وإشاعته.
          وأما الإنفاق من الإقتار فهو الغاية في الكرم، وقد مدح الله تعالى فاعله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وهذا عام فنفقة الرجل على عياله وضيفه والسائل منه، وفي كل نفقة في وجوه الطاعات والمبرات، وهو متضمن للوثوق بالله تعالى وبما عنده، والزهادة في الدنيا وقصر الأمل، وهذا كله من مهمات طرق الآخرة، وباشتماله على هذه المعاني الكثيرة يقوى أن يكون الحديث مرفوعاً، ويؤخذ منه أن نفقة المعسر على أهله أعظم أجراً من نفقة الموسر.
          وقال الكرماني: هذه الكلمات جامعة لخصال الإيمان كلها؛ لأنها إما مالية أو بدنية، والإنفاق إشارة إلى المالية المتضمنة للوثوق بالله تعالى والزهادة في الدنيا، والبدنية إما مع الله؛ أي: التعظيم لأمر الله وهو الإنصاف أو مع الناس؛ أي: الشفقة على خلق الله وهو بذل السلام.