الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر

          ░36▒ (بَابُ: خَوْفِ الْمُؤْمِنِ): من إضافة المصدر إلى فاعله، و(من) ومجرورها متعلق به، وسقطت: <من> لابن عساكر لكنها مقدرة (مِنْ أَنْ يَحْبَطَ): مبني للفاعل من باب علم، ومصدره حبطاً وحبوطاً، ويقال: حبَط _بفتح الباء_ كما قاله أبو زيد، وبه قرئ: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]: أي: بطل، وفاعله (عَمَلُهُ): وضميره للمؤمن؛ أي: ثوابه الموعود به (وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ): جملة اسمية وقعت حالاً من المؤمن أو من ضميره على حد: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس:4] و(يشعُر) _بضم العين المهملة_.
          قال في ((العباب)): شعَرت _بالفتح_ أشعُر به _بالضم_ شِعراً وشِعرة وشِعرى _بالكسر_ فيهن وشَعرة _بالفتح_ وشعوراً ومشعوراً ومشعورة: علمت به وفطنت له ومنه قولهم: ليت شعري.
          وفي قوله: (وهو لا يشعر): إشارة إلى ما قاله بعض السلف في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]: / أعمال كانوا يحتسبونها بدلت سيئات.
          قال ابن بطال: إنما يحبط عمل المؤمن وهو لا يشعر، إذا عد الذنب يسيرًا، فاحتقره وكان عند الله عظيمًا، وليس الحبط بمخرج من الإيمان، وإنما هو نقصان منه.
          ولا يرد أنه وردَ: (الشّركُ أخفى فيكم من دبيب النمل)، فإنه يدل على أنه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر، وهو لا يشعر؛ لأنا نقول: قسموا الرياء إلى أكبر وهو ما في عقد الإيمان وهو مشرك حقيقة وإلى أصغر وهو ما كان في الأعمال دون اعتقاد القلب وهذا هو المراد في هذا الحديث لقرينة (فيكم)، قاله الكرماني.
          ومناسبة هذا الباب لما قبله من جهة أن اتباع الجنائز مظنة لأن يقصد به مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين، والحديث يقتضي أنَّ الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتساباً خالصاً، فعقبه بهذا الباب المشير إلى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر على قصده الخالص فيحرمُ به الثوابَ الموعودَ وهو لا يشعر؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، وبه يندفع اعتراض بعضهم عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية من المعتزلة الذين يقولون: إن السيئات تبطل الحسنات، بل مراده _كما قال النووي_ بحبْطِ عمله نقصانُ الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر فإن الإنسان لا يكفر بما يعتقده أو يفعله عالماً بأنه يوجب الكفر. انتهى.
          لكن اعترضه الكرماني وغيره: بأن الجمهور على أن الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنه كفر.
          وأقول: نظر فيه البرماوي بأن النووي أراد بالفعل الأعم من القول فيشمل كلمة الكفر وغيرها، وأما إذا لم يعلم أن ذلك الفعل كفر فلا يكفر به. انتهى.
          وأقول: قد يقال مراد الكرماني: الاعتراض من الجهة الثانية فلا نظر لكنه قد يجاب عن النووي من جهتها بأن المفهوم إذا كان فيه تفصيل فلا إيراد، وهنا كذلك فإن من لم يكن عالماً وصدر منه ذلك فإن كان يعذر بجهله فلا كفر وإلا فيكفر، وعلى هذا يحمل كلام النووي فلا إيراد، فتأمل وأَنْصفْ.
          وجوز البرماوي تبعاً للكرماني: أن يراد الإحباط بالكفر فقال: مراده: أن يحبط بكفر أو نحوه لا مطلق المعصية فإن ذلك من قول المعتزلة القائلين: بأن الإيمان هو التصديق فقط المطلقين اسم الإيمان الكامل مع وجود المعصية.
          واعلم: أن البخاري قد عقد هذا الباب للرد على المرجئة خاصة، وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم لكن قد يَشرِكهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها بخلاف هذا.
          وقال ابن العربي في الرد عليهم: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان:
          أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر، وإحباط الكفر للإيمان، وذلك فيهما إذهاب حقيقي.
          ثانيهما: إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجى، ومن رجحت سيئاته وقفَ في المشيئة إما أن يفغر له، وإما أن يعذب، فالتوقف إبطال مّا؛ لأن توقف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازاً لا حقيقة؛ لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطين وحكموا على العاصي بحكم الكافر؛ وهم معظم القدرية.
          وقال ابن المنير: انتقل البخاري من الرد على القدرية إلى الرد على المرجئة، وهما قصدان: القدرية: تكفر بالذنب، والمرجئة: تهدر الذنب بالكلية، وما ساقه في الترجمة صريح في الرد عليهم. انتهى.
          وقال القاضي عياض: المرجئة أضداد الخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج تكفر بالذنوب، والمعتزلة يفسقون بها وكلهم يوجب الخلود في النار، والمرجئة تقول: لا تضر الذنوب مع الإيمان وغلاتهم تقول: يكفي التصديق بالقلب وحده، ولا يضر عدم غيره.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ): أي: ابن يزيد (التَّيْمِيُّ): تيم الرِّباب _بكسر الراء، وبموحدتين بينهما ألف_ تابعي، عابد، ثقة لكنه مرجئ، قتله الحجاج سنة اثنتين وتسعين (مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ): من الخشية وهو الخوف، / وربما تصحف بحسبت (أَنْ أَكُونَ مُكَذَّباً): _بفتح المعجمة_ أي: يكذبني من يرى عملي مخالفاً لقولي، ويقول: لو كنت صادقاً ما فعلت هذا الفعل، ورواه الأربعة بكسرها، وهو المختار.
          ورواية الأكثر كما في ((الفتح)): أي: مكذباً للدين حيث لا أكون ممن عمل بمقتضاه أو لنفسي إذ أقول: أني من المؤمنين ولا أكون ممن عمل بعملهم.
          وقال النووي: معناه: أن الله تعالى ذم من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقصر في العمل فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] فخشي أن يكون مكذباً إذا لم يبلغ غاية العمل؛ أي: مشابهاً للمكذبين لعدم جريهم على مقتضى عملهم قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
          فقد قال البيضاوي: إنها ناعية على من يعظ غيره، ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه وخبث سريرته وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس، والإقبال عليها بالتكميل ليتقوم، فيقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر.
          وهذا التعليق وصله المصنف في ((تاريخه)) عن أبي نعيم، وأحمد في ((الزهد)) عن ابن مهدي كِلاهُما عن الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور.
          (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ): تصغير مَلَكَةٍ _بفتحتين_ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير فُقِد فلم يرجع ولم يعلم حاله، وهذا التعليق وصله ابن خيثمة في ((تاريخه)) لكنه أبهم العدد، وأخرجه محمد بن نصر المروزي مطولاً في كتاب (الإيمان)، وعينه أبو زرعة الدمشقي في ((تاريخه)) من وجه آخر مختصراً كما هنا.
          (أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ): وفي نسخة: (رسول الله) (صلعم): والصحابة المذكورون من أجلهم: عائشة وأسماء بنتا الصديق، وأم سلمة والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعقبة بن الحارث النوفلي، والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع، قاله في ((الفتح)).
          وجعله الكرماني وتبعه البرماوي كالإجماع السكوتي على الخوف من نحو عروض الكفر كما تذكر عبارته عند قول المصنف: وما يحذر من الإصرار على الكفر.
          (كُلُّهُمْ يَخَافُ): أي: يخشى (النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ): متعلق بيخاف، وذلك؛ لأن المؤمن قد يعرض له في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم مبالغة في الورع والتقوى.
          وقال ابن بطال: خافوا ذلك؛ لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغيير مالم يعهدوه ولم قدروا على إنكاره فخافوا أن يكونوا داهنوا ونافقوا.
          وروي عن عائشة ♦: أنها سألت رسول الله صلعم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] فقال: (هم الذين يُصلّون ويصومون ويتصدقون ويَفْرَقُونَ أن لا يقبل منهم).
          وقال الكرماني: (ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل) بناءً على ما تقدم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن إيمان جبريل أكمل من إيمان آحاد الناس خلافاً للمرجئة حيث قالوا: إيمان أفسق الفساق وإيمان جبريل سواء.
          (مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ): فاعل للظرف وجملة (يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ): من القول ومقوله نعت لأحد، أو (أحد) مبتدأ، والجملة خبر أي: لا يجزم واحد منهم بعدم عروض النفاق له كما يجزم بذلك في جبريل وميكائيل ♂ لأنهم كغيرهما من الملائكة والأنبياء معصومون.
          وقد روى معنى هذا الأثر الطبراني في (الأوسط) بإسناد ضعيف إلى عائشة مرفوعاً، وفي ذلك إشارة إلى أن المذكورين قائلون بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، ففيه رد على المرجئة القائلين بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة، ولا دليل للمرجئة فيما روي عن علي ☺ مرفوعاً: (من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله كان مؤمناً كإيمان جبريل ◙)؛ لأنه حديث موضوع كما ذكره أبو سعيد النقاش؛ لأنه يجوز أن يكون التشبيه في أصل الإيمان لا في غيره، فافهم.
          (وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ): أي: البصري (مَا خَافَهُ): نائب فاعل على إرادة / اللفظ، وفي نسخة: (وعن الحسن أنه قال: ما خافه) وفي رواية: (وما خافه) (إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ): كعلمه (إِلاَّ مُنَافِقٌ):
          قال في ((الفتح)): وقد يشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك مبني على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين العراقي، وهي أن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها لما في ذلك من الخلاف، وهنا كذلك فقد أوقع اختصارُه له بعضَهم في الإضطراب في فهمه، فقال النووي: ما خاف الله إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
          وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وكذلك الكرماني لكن جعله على حذف مِن، فقال: ما خافه ولا أمنه؛ أي: ما خاف من الله ولا أمن منه، فحذف الجار وأوصل الفعل، وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنه خلاف مراد المصنف، ومن نقله عنهم، والذي أوقعهم فيه الاختصار وإلا فسياق كلام الحسن يبين أنه إنما أراد النفاق.
          فقد وصل هذا التعليق جعفر الفريابي في كتاب (صفة المنافق) له فقال: حدثنا قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو: ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق، وقال أحمد بن حنبل في كتاب (الإيمان): حدثنا روح بن عبادة: حدثنا هشام: سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق، وعن الحسن أيضاً: والله ما أصبح ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.
          وعنه أيضاً أنه قال في جواب من سأله عنه: فقال: تخاف النفاق؟، فقال: وما يؤمنني؟، قد خافه عمر بن الخطاب.
          وقال طريف للحسن: إن ناساً يزعمون أن لا نفاق أو لا يخافون النفاق _شك أبو الأشهب_، فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريءٌ من النفاق أحب إلى من طلاع الأرض ذهباً.
          (وَمَا يُحَذِّر): بضم التحتية، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الذال ويروى بتخفيفها مع سكون الحاء، و(ما) فيهما مصدرية، والجملة في تأويل المصدر مجرور عطفاً على خوف؛ أي: وباب التحذير أو الحذر من الإصرار، وجوز الكرماني أيضاً عطفه على (يقول) على أن (ما) نافية، و(يحذر) بلفظ المعروف.
          وأقول: يرد عليه وإن وافقه البرماوي أنه يتوقف على ثبوت كونه من كلام ابن أبي مليكة، فإن ثبت صح التوجيه وإلا فلا، والظاهر أنه من كلام البخاري دون غيره، فإن الترجمة شيئان لا شيء واحد، فافهم.
          ويجوز كون (ما) موصولاً اسمياً، ويجوز عليه وعلى كونها مصدرية قراءة (يحذر) بالبناء للفاعل الراجع ضميره للمؤمن، فافهم.
          وقوله: (مِنَ الإِصْرَارِ): متعلق بيحذر أو بمحذوف حال من (ما) (عَلَى التَّقَاتُلِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ): الظرفان متعلقان بالإصرار، ولأبوي ذر والوقت: <على النفاق> بدل (التقاتل)، والأولى مناسبة لقوله في الحديث: (وقتاله كفر)، والثانية مناسبة للآثار، ومعناها صحيح وإن لم تثبت بها الرواية على ما قاله في ((الفتح)).
          لكن قال القسطلاني: ثبتت بها الرواية عن أبي ذر، ونسخه السميساطي.
          واعترض بين الترجمتين بالآثار المذكورة لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان فالأول متعلق بالثانية، والثاني متعلق بالأولى كما يتضح على حد قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] الآية.
          والغرض من الترجمة الثانية والآية: الرد على المرجئة حيث قالوا: لا حذر من المعاصي عند حصول الإيمان، وأما الباب جميعه فقد عقده المصنف لأمرين: لبيان الخوف من نحو عروض الكفر مما هو كالإجماع السكوتي مما نقل عن التابعين الثلاثة، ولبيان الخوف من الإصرار على المعاصي بالآية، قاله الكرماني.
          وقال النووي: مراد البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة في قولهم: إن الله لا / يعذب على شيء من المعاصي من قال: لا إله إلا الله ولا يحبط شيئاً من أعماله بشيء من الذنوب وأن إيمان المطيع، والعاصي سواء فذكر في صدر الباب أقوال أئمة التابعين، وما نقلوه عن الصحابة وهو كالمشير إلى أنه لا خلاف بينهم فيه وأنهم مع اجتهادهم المعروف خافوا أن لا ينجوا من عذاب الله تعالى، وبهذا المعنى استدل أبو وائل لما سأله زبيد عن المرجئة أمصيبون أم مخطئون في قولهم: (سباب المسلم فسوق وقتاله) وغيرهما لا يضر إيمانهم، فروى الحديث وأراد الإنكار عليهم وإبطال قولهم المخالف لصريح الحديث، وأما قول ابن أبي مليكة فمعناه: أنهم خافوا أن يكونوا من جملة من داهن ونافق.
          وقوله: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): أي: في سورة آل عمران ({وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]): دليل للترجمة الثانية، فإن مفهوم الآية ذم من لم يستغفروا لذنوبهم ولم يتوبوا وأصروا عليها وهم عالمون، وجملة: ({وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا})، حال من أحد الضمائر المتقدمة فإن جميع الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
          قال الواحدي: قال ابن عباس: أنزلت في نبهان التّمار أتته امرأة حسناء تبتاع تمراً فضمها إلى نفسه وقبَّلها، ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلعم وذكر له ذلك فنزلت.
          وكأنّ المؤلف أشار إلى ما أخرجه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً: (قال: ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) أي: يعلمون أن من تابَ تاب الله عليه ثم لا يستغفرون.
          وللترمذي من حديث أبي بكر الصديق ☺ مرفوعاً: (ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة).
          قال في ((الفتح)): إسناد كل منهما حسن.
          وقال في ((الكشاف)): {وَلَمْ يُصِرُّواْ} [آل عمران:135]: ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين، وعن النبي صلعم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، وروي: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار).
          {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]: حال من فاعل الإصرار، وحرف النفي منصب عليهما معاً، والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها، وبالنهي عنها والوعيد عليها؛ لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح.
          ونقل البغوي اختلافاً في معنى: ({وَهُمْ يَعْلَمُونَ}) فقال ابن عباس والحسن الكلبي: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}أنها معصية، وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}أن الإصرار ضار، وقال الضحاكُ: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله يملك مغفرة الذنب، وقال الحسن بن الفضل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}أن لهم رباً يغفر الذنوب، وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}أن الله تعالى لا يتعاظمه العفو عن الذنوب، وإن كثرت، وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}أنهم إن استغفروا غفر لهم.
          قال في ((الفتح)): ومما يدخل تحت الترجمة قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] وقوله تعالى: و{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وهذه الآية أدل على المراد، فمن أصر على تعاطي المعصية خيف عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر.