نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله

          ░52▒ (بابٌ كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ) أي: شغل اللاهي يدلُّ عليه لفظ ((اللَّهو)) (عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ) وقيَّد بقوله: ((إذا شغله عن طاعة الله))؛ لأنَّه إذا لم يشغله
          عن طاعة الله يكون مباحاً، وعليه أهل الحجاز. ألا ترى: أنَّ الشَّارع أباح للجاريتين يوم العيد الغناء في بيت عائشة ♦ من أجلِ العيد، كما مضى في ((كتاب العيدين)) [خ¦949]، وأباح لها النَّظر إلى لعب الحبشة بالحراب في المسجد [خ¦950].
          وقال الحافظُ العسقلاني: أي: كمن التهى بشيءٍ من الأشياء مطلقاً سواء كان مأذوناً في فعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاةٍ نافلة أو بتلاوة أو ذكرٍ أو تفكُّر في معاني القرآن مثلاً، حتَّى خرج وقت الصَّلاة المفروضة / عمداً، فإنَّه يدخل تحت هذا الضَّابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغَّب فيها المطلوب فعلها، فكيف حال من دونها؟
          وأوَّل هذه التَّرجمة لفظ حديث أخرجَه أحمدُ والأربعة، وصحَّحه ابن خُزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر ☺ رفعه: ((كلُّ ما يلهو به المرء المسلم باطلٌ إلَّا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبة أهله)) الحديث، وكأنَّه لما لم يكن على شرط البخاري، فاستعمله لفظ ترجمة، واستنبط من المعنى ما قيَّد به الحكم المذكور.
          وإنَّما أطلق على الرَّمي أنَّه لهو لإمالة الرَّغبات إلى تعلُّمه لما فيه من صورة اللهو، لكن المقصود من تعلُّمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتَّأنيس ونحوه، وإنَّما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة، لا أنَّ جميعها من الباطل المُحرَّم.
          (وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ) عطفٌ على ما قبله، ومعناه: من قال هذا ما يكون حكمه؟ وقوله: ((تعال))، أمرٌ من تعالى يتعالى تعالياً، تقول: تعال تعاليا تعالوا تعالي للمرأة تعالين، ولا يتصرَّف منه غير ذلك.
          وقال الجوهري: ولا يجوز أن يقال منه: تعاليت ولا ينهى عنه، وقال غيره: يجوز تعاليتُ، وقوله ((أقامْرك)) مجزومٌ.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية) كذا في رواية الأَصيلي، وفي رواية أبي ذرٍّ والأكثر: <{لهو الحديث} الآية>، وتمام الآية: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
          ووجه ذكر هذه الآية عقيب التَّرجمة المذكورة أنَّه جعل اللَّهو فيها قائداً إلى الضَّلال، صادًّا عن سبيل الله فهو باطلٌ، وقال ابن بطَّال: إنَّ البخاري ☼ استنبط تقييد اللهو في التَّرجمة من مفهوم قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6].
          فإنَّ مفهومه أنَّه إذا اشتراه لا ليضل: لا يكون مذموماً، وكذا مفهوم التَّرجمة أنَّه إذا لم يشغله / اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلاً، لكن عموم هذا المفهوم يخصُّ المنطوق، فكلُّ شيءٍ نصَّ على تحريمه ممَّا يُلهي يكون باطلاً سواء شغل أم لم يشغل، وكأنَّه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللَّهو في هذه الآية بالغناء.
          وقد أخرج التِّرمذي من حديث أبي أُمامة رفعه: ((لا يحلُّ بيع المغنيات ولا شراؤهنَّ، وفيه وفيهنَّ أنزل الله: {وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] الآية)) وسنده ضعيفٌ. انتهى.
          وقد روى ابن جرير عن ابن مسعودٍ ☺ قال في تفسير اللَّهو في هذه الآية: هو الغناء والله الَّذي لا إله إلَّا هو يردِّدها ثلاثاً(1) .
          وقال أيضاً: الغناء ينبت النِّفاق في القلب، وقاله مجاهدٌ أيضاً، وروي عن ابن عبَّاس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير أيضاً أنَّه هو الغناء، وروي عن الحسن أنزلت في المغنِّي والمزامير.
          وعند الإمام أحمد: عن وكيع، قال: حدَّثنا خلاد، عن عُبيد الله بن زحر، عن علي بن زيد، عن القاسم بن عبد الرَّحمن هو أبو عبد الرَّحمن مرفوعاً: ((لا يحلُّ بيع المغنيات ولا شراؤهنَّ ولا التِّجارة فيهنَّ، وأكلُ أثمانهنَّ حرامٌ)) ورواه ابن أبي شيبة بالسَّند المذكور، عن القاسم، عن أبي أُمامة مرفوعاً بلفظ أحمد، وزاد فيه: ((وفيه أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6])).
          ورواه التِّرمذي من حديث القاسم بن عبد الرَّحمن عن أبي أُمامة عن رسول الله صلعم قال: ((لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنَّ ولا تعلموهنَّ، ولا خير في تجارةٍ فيهنَّ وثمنهنَّ حرامٌ)) في مثل هذا أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] الآية.
          وقال: حديثٌ غريب إنَّما نعرفه من هذا الوجه، وسألت البخاري عن إسناد هذا الحديث فقال: علي بن زيد ذاهب الحديث، وَوُثِّقَ عُبيد الله، والقاسم بن عبد الرَّحمن، ورواه ابن ماجه في ((التِّجارات)) من حديث عبيد الله الإفريقي عن أبي أُمامة قال: ((نهى رسول الله صلعم عن بيع المغنيات، وعن شرائهنَّ، وعن كسبهنَّ، وعن أكل أثمانهنَّ)). / ورواه الطَّبراني عن عمر بن الخطَّاب ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ثمن القينة سُحْتٌ، وغناؤها حرامٌ، والنَّظر إليها حرامٌ، وثمنها من ثمن الكلب، وثمن الكلب سحتٌ، ومن نبت لحمه من سحت، فالنَّار أولى به)).
          ورواه البيهقي عن أبي أُمامة من طريق ابن زحر مثل رواية الإمام أحمد، وفي «معجم الطَّبراني الكبير» من حديث أبي أُمامة الباهلي: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ما رفع رجلٌ بعقيرته غناء إلَّا بعث الله له شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتَّى يسكت متى سكت)).
          وقيل: الغناء مفسدةٌ للقلب مفقدةٌ للمال مسخطةٌ للرَّب، وفي ذلك: الزَّجر العظيم للأشقياء المُعرضين عن الانتفاع بسماع كلام الله، المقبلين على استماع المزامير، والغناء بالألحان، وآلات الطَّرب.
          هذا وإضافة اللَّهو إلى الحديث للتَّبيين بمعنى ((من))؛ لأنَّ اللهو يكون من الحديث وغيره، فبيُّن بالحديث، أو للتَّبعيض كأنَّه قيل: ومن النَّاس من يشتري بعض الحديث الَّذي هو اللهو منه.
          وقوله: {ليضل}؛ أي: ليصدَّ النَّاس عن سبيل الله؛ أي: دين الإسلام والقرآن بغير علمٍ؛ أي: بحال ما يشتريه، أو بالتِّجارة حيث استبدل اللَّهو بقراءة القرآن.
          ثمَّ إنَّه رُوِي عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّها نزلت في رجلٍ اشترى جاريةً تغنيه ليلاً ونهاراً.
          وقيل: نزلت في النَّضر بن الحارث وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدِّث بها قريشاً، وكان يقول إن كان محمَّد يحدِّثكم بحديث عادٍ وثمود، فأنا أحدِّثكم بحديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن.


[1] في هامش الأصل: في رواية: ثلاث مرات.