نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا }

          ░32▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ} [المجادلة:11]) أي: توسَّعوا فيه، وقرأ عاصم: {في المجالس} بالجمع اعتباراً بأنَّ لكلِّ واحدٍ مجلساً ({فَافْسَحُوا}) أي: فوسِّعوا ({يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}) يوسِّع الله عليكم في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّ الجزاءَ من جنس العمل، وهو مطلقٌ في كلِّ ما يبتغي النَّاس الفسحة فيه من المكان والرِّزق والقبر وغير ذلك، واختلف في معنى الآية فقيل: إنَّ ذلك مخصوصٌ بمجلس النَّبي صلعم .
          قال ابن بطَّال: قال بعضُهم: هو مجلس النَّبي صلعم خاصَّةً عن مجاهد وقتادة، ولفظ الطَّبري عن قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النَّبي صلعم إذا رأوه مقبلاً ضيِّقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسِّع بعضهم لبعض، ولا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك الاختصاص.
          وأخرج ابنُ أبي حاتم عن مقاتل بن حَيَّان _بفتح المهملة والتَّحتانيَّة المشددة_ قال: نزلت يوم جمعة، وكان رسول الله صلعم يومئذٍ في الصُّفَّة، وفي المكان ِضْيقٌ، وكان يُكْرِم أهل بدرٍ من المهاجرين / والأنصار، فجاء أناسٌ من أهل بدرٍ، وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال رسول الله صلعم على أرجلهم ينتظرون أن يوسَّع لهم فلم يُفسح لهم، فشقَّ ذلك على النَّبي صلعم ، فقال لمن حوله من غير أهل بدرٍ: ((قم يا فلان وأنت يا فلان)) فأجلسهم في أماكنهم فشقَّ ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النَّبي صلعم الكراهة في وجوههم، وتكلَّم في ذلك المنافقون.
          فبلغنا أنَّ رسول الله صلعم قال: رحم الله رجلاً يفسح لأخيه فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لإخوانهم، ونزلت هذه الآية. وعن ابن عبَّاسٍ ☻ : هي مجالسُ القتال إذا اصطفُّوا للحرب.
          قال الحسن: كانوا يتشاحُّون على الصَّف الأول، فلا يوسِّع بعضهم لبعضٍ رغبةً في الشَّهادة فنزلت. وقال يزيد بن أبي حبيب: أي: اثبتوا في الحرب، والظَّاهر: أنَّ الحكم يطَّرد في مجالس الطَّاعات كلِّها وإن كان السَّبب خاصًّا.
          ({وَإِذَا قِيلَ انْشِزُوا}) أي: انهضوا وارتفعوا وقوموا للتَّوسعة على المقبلين أو إلى الصَّلاة أو الجهاد أو إلى أعمال الخير كلِّها. وقال قتادة: تفرَّقوا عن رسول الله صلعم فقوموا. وقال ابنُ زيد: انشزوا عنه في بيته فإنَّ له حوائج ({فَانْشِزُوا}) فانهضوا في المجلس للتَّفسُّح؛ لأنَّ مزيد التَّوسعة على الواردين يقع على فوق فيتَّسع الموضع أمروا أولاً بالتَّفسُّح، ثمَّ ثانياً بامتثالِ الأمر فيه. وقال صاحب «الأفعال»: نشَز القوم من مجلسهم قاموا منه _بفتح الشين وكسرها_ وقد قرئ بهما.
          (الآيَةَ) كذا في رواية الأكثر، وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى قوله: {فَافْسَحُوا} الآية> وبقيَّة الآية قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ} أي: بامتثال أوامره وأوامر رسوله {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: والعالمين منهم خاصَّةً {دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
          قال صاحب «الانتصاف»: وقع في الجزاء رفع الدَّرجات مناسبةً للعمل؛ لأنَّ المأمور به تفسُّح المجالس؛ لئلَّا يتنافسوا في القرب من المكان المرتفع بحلول الرَّسول فيه، فالفاسح حابسٌ لنفسه عما يتنافس فيه من الرِّفعة تواضعاً، فجوزي بالرِّفعة كقوله: ((من تواضعَ لله رفعه الله)).
          ثمَّ لما علم: أنَّ أهل العلم يستوجبون / رفع المجلس خصَّهم بالذِّكر؛ ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرِّفعة في المجلس تواضعاً لله تعالى يريد أنَّه من باب وملائكته وجبريل (1)، وكان ابن مسعودٍ ☺ إذا قرأ هذه الآية قال: يا أيها النَّاس افهموا هذا الآية لترغِّبكم في العلم.


[1] كذا في الإرشاد، ولعله يقصد آية البقرة: 98 {وملائكته ورسله وجبريل} كما في تفسير الألوسي.