نجاح القاري لصحيح البخاري

باب المعانقة وقول الرجل: كيف أصبحت؟

          ░29▒ (بابُ الْمُعَانَقَةِ) مفاعلةٌ، من عانق الرجلُ الرجلَ إذا جعلَ يديه على عنقه، وضمَّه إلى نفسه وتعانقا واعتنقا، والعناق أيضاً: المعانقة، وسقط لفظ ((المعانقة)) وواو العطف من رواية النَّسفي، ومن رواية أبي ذرٍّ عن المستملي والسَّرخسي، وضرب عليها الدِّمياطي في أصله (وَقَوْلِ الرَّجُلِ) بالجرِّ عطفاً على السَّابق (كَيْفَ أَصْبَحْتَ) وليس في حديث الباب ذكر للمعانقة.
          نعم سبق ذكرها في ((البيوع)) [خ¦2122] في معانقته صلعم للحسن ☺، فيحتمل كما نقله ابن بطَّال عن المهلَّب: أنَّه قصد أن يسوقَه هنا فلم يستحضر له سنداً غير السَّند السَّابق، وليس من عادته غالباً إعادة السَّند الواحد، فأدركه الموت قبل أن يقعَ له / ما يوافق ذلك فصار ما ترجم له بالمعانقة خالياً من الحديث، وبعده باب قول الرَّجل كيف أصبحت، فظنَّ النَّاسخ الأول لمَّا لم يجد بينهما حديثا أنَّ الباب معقودٌ لهما، فجمعهما متواليين، وفي الكتاب مواضع من الأبواب فارغة لم يدرك أن يتمَّها بالأحاديث. انتهى.
          وتعقَّبه الحافظ العسقلاني: بأنَّ في جزمه بذلك نظراً، والَّذي يظهر: أنَّه أراد ما أخرجه في «الأدب المفرد»، فإنَّه ترجم فيه ((باب المعانقة))، وأورد فيه حديث جابرٍ ☺ أنَّه بلغه حديث عن رجلٍ من الصَّحابة قال: فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتَّى قدمت الشَّام، فإذا عبد الله بن أُنيس فبعثتُ إليه، فخرجَ فاعتنقني واعتنقته...، الحديث، فهذا أولى بمرادهِ.
          وأمَّا جزمه بأنَّه لم يجد سنداً آخر ففيه نظرٌ؛ لأنَّه أورده في ((كتاب اللِّباس)) [خ¦5884] بسندٍ آخر، وعلَّقه في ((مناقب الحسن)) [خ¦62/22-5616] فقال: وقال نافع بن جبير عن أبي هريرة ☺، فذكر طرفاً منه، ولو كان أراد ذكره لعلَّق منه موضع حاجته أيضاً بحذف أكثر السَّند، أو بعضه كأن يقول: وقال أبو هريرة مثلاً، أو قال عُبيد الله بن أبي يزيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرة ☺.
          وأمَّا قوله أنَّهما ترجمتان خلت الأُولى عن الحديث فضمَّهما النَّاسخ، فإنَّه محتملٌ، ولكنَّ الجزم به فيه نظر، وقد ذكرت في «المقدمة» عن أبي ذرٍّ راوي الكتاب ما يؤيِّد ما ذكره من أنَّ بعض من سمع الكتاب كان يضمُّ بعض التَّراجم إلى بعض، ويسدُّ البياض، وهي قاعدةٌ يُفزع إليها عند العجز عن تطبيق الحديث على التَّرجمة. ويؤيِّده: إسقاط لفظ ((المعانقة))، والواو في رواية غير أبي ذرٍّ والنَّسفي.
          مطلب: وقد ورد في المعانقة أيضاً حديث أبي ذرٍّ ☺ أخرجه أحمدُ وأبو داود من طريق رجل من عنزة لم يسمَّ، قال: قلت لأبي ذرٍّ: هل كان رسولُ الله صلعم يصافحكم إذا لقيتموه، قال: ما لقيته قط إلَّا صافحني وبعث إلي ذات يوم، فلم أكنْ في أهلي، فلما جئت أُخبِرت أنه أرسل إليَّ فأتيته، وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود وأجرد. / ورجاله ثقاتٌ إلَّا هذا الرجل المبهم.
          وأخرج الطَّبراني في «الأوسط» من حديث أنسٍ ☺: كانوا إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قَدِموا من سفرٍ تعانقوا. وله في «الكبير»: كان النَّبي صلعم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتَّى يسلِّم عليهم.
          قال ابن بطَّال: اختلف النَّاس في المعانقة، فكرهَها مالك وأجازها ابن عُيينة، ثمَّ ساق قصَّتهما في ذلك من طريق سعيد بن إسحاق، وهو مجهولٌ عن عليِّ بن يونس اللَّيثي المدني.
          وأخرجها ابنُ عساكر في ترجمة جعفر من «تاريخه» من وجهٍ آخر عن عليِّ بن يونس قال: استأذن سفيان بن عُيينة على مالك، فأذن له فقال: السَّلام عليكم، فردُّوا ◙، ثمَّ قال: السَّلام خاصٌّ وعام، السَّلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السَّلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته، ثمَّ قال(1) : لولا أنَّها بدعةٌ لعانقتك، قال: قد عانقَ من هو خيرٌ منك، قال: ذاك خاصٌّ، قال: ما عمَّه يعمُّنا، ثمَّ ساق سفيان الحديث عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عبَّاس ☻ قال: لمَّا قدم جعفر من الحبشة اعتنقَه النَّبي صلعم .
          قال الذَّهبي في «الميزان»: هذه الحكاية باطلةٌ وإسنادها مظلمٌ.
          قال الحافظُ العسقلاني: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد، فأخرج سفيان بن عيينة في «جامعه» عن الأجلح عن الشَّعبي أنَّ جعفراً لمَّا قدم تلقَّاه رسول الله صلعم فقبَّل جعفراً بين عينيه.
          وأخرج البغويُّ في «معجم الصَّحابة» من حديث عائشة ♦: لمَّا قدم جعفر استقبله رسول الله صلعم فقبَّل ما بين عينيه. وسنده موصولٌ، لكن في سنده محمد بن عبد الله بن عُبيد بن عمير وهو ضعيفٌ.
          وأخرج التِّرمذي عن عائشة ♦ قالت: قَدِم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلعم في بيتي فقرع الباب، فقام إليه النَّبي صلعم عرياناً يجرُّ ثوبه فاعتنقه وقبَّله، قال التِّرمذي حديثٌ حسنٌ. وأخرج قاسم بن إصبغ عن أبي الهيثم بن التَّيهان: أنَّ النَّبي صلعم لقيه فاعتنقه وقبَّله. وسنده / ضعيفٌ.


[1] أي: مالك.