نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: السلام اسم من أسماء الله تعالى

          ░3▒ (بابٌ السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى) هذه التَّرجمة لفظ بعض حديث مرفوعٍ له طرق ليس شيءٌ منها على شرطهِ في «الصحيح» فاستعمله في التَّرجمة، وأورد ما يؤدِّي معناه على شرطهِ، وهو حديث التَّشهُّد لقوله فيه: ((فإنَّ الله هو السَّلام)) [خ¦6230] وكذا ثبتَ في القرآن: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:23].
          قال الطِّيبي في تفسير هذا الاسم: السَّلام مصدر نعتٍ به، / والمعنى: ذو السَّلامة من كلِّ آفةٍ ونقيصةٍ؛ أي: الَّذي سلمت ذاته عن الحدوث والعيب، وصفاته عن النَّقص، وأفعاله عن الشَّرِّ المحض، فإنَّ ما تراه من الشُّرور فهو مقضيٌّ لا لأنَّه كذلك، بل لما يتضمَّنه من الخير الغالب الَّذي يؤدِّي تركه إلى شرٍّ عظيم، فالمقضي والمفعول بالذَّات هو الخير، والشَّرُّ داخلٌ تحت القضاء، فعلى هذا يكون من أسماء التَّنزيه. وقال النَّووي: السَّلام من أسماء الله تعالى؛ يعني: السَّالم من النَّقائص. ويقال: المسلم لعباده، وقيل: المسلِّم عليهم.
          وأمَّا لفظ التَّرجمة فأخرجه المصنِّف في «الأدب المفرد» من حديث أنسٍ ☺ بسندٍ حسنٍ وزاد: ((وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم)). وأخرجه البزَّار والطَّبراني من حديث ابن مسعودٍ ☺ مرفوعاً وموقوفاً، ومن طريق الموقوف أقوى. وأخرج البيهقيُّ في «الشعب» من حديث أبي هريرة ☺ مرفوعاً بسندٍ ضعيفٍ، وعن ابن عبَّاس ☻ موقوفاً: ((السَّلام اسم الله، هو تحيَّة أهل الجنَّة)) وشاهده: حديث المهاجر بن قنفذ: أنَّه سلَّم على النَّبي صلعم ، فلم يردَّ عليه حتَّى توضَّأ، وقال: ((إنِّي كرهت أن أذكرَ الله إلَّا على طهر))، أخرجه أبو داود والنَّسائي، وصحَّحه ابن خُزيمة وغيره، ويحتمل أن يكون أراد ما في ردِّ السَّلام من ذكر اسم الله صريحاً في قوله: ((ورحمة الله)).
          وقد اختلف في معنى: ((السَّلام عليكم)): فقال القاضي عياض: معناه: اسم الله؛ أي: كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك. وقيل: معناه: إنَّ الله مطَّلعٌ عليك فيما تفعلُ. وقيل: معناه: إنَّ اسم الله يذكر على الأعمال توقعاً؛ لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض النِّسيان عنها. وقيل: معناه السَّلامة، كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91]. وكما قال الشَّاعر:
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ عَمْرٍو                     وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ
          فكأنَّ المسلم أعلمَ من سَلَّم عليه أنَّه سالمٌ منه، وأنَّ لا خوف عليه منه. وقال ابن دقيق العيد في «شرح الإلمام»: السَّلام يُطلق بإزاء معانٍ منها: السَّلامة، / ومنها: التَّحيَّة، ومنها أنَّه اسمٌ من أسماء الله تعالى. قال: وقد يأتي بمعنى السَّلامة محضاً، وقد يأتي بمعنى التَّحيَّة محضاً، وقد يأتي متردداً بين المعنيين كقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94]، فإنَّه يحتمل التَّحيَّة والسَّلامة، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ. سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:57-58].
          وقال الطِّيبي في «شرح المشكاة»: ووظيفة العارف من قوله: السَّلام، أن يتخلَّق به بحيث يَسْلَم قلبه من الحقد والحسد، وإرادة الشَّرِّ، وجوارحه من ارتكاب المحظورات، واقتراف الآثام، ويكون سالماً لأهل الإسلام ساعياً في ذبِّ المضارِّ عنهم، ومسلِّماً على كلِّ من يراه عرفه أو لم يعرفه.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء:86]) أي: سُلِّم عليكم، فإنَّ التَّحيَّة في ديننا بالسَّلام في الدَّارين قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61]، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب:44]، والتَّحية: تفعلة من حيى يحيي تحية ({فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء:86]) أي: فقولوا: عليكم السَّلام ورحمة الله، إذا قال: السَّلام عليكم، وزيدوا: وبركاته، إذا قال: ورحمة الله، كما مرَّ.
          ({أَوْ رُدُّوهَا}) أي: أجيبوها بمثلها، وردَّ السَّلام جوابه بمثله؛ لأنَّ المجيب يردُّ قول المسلم، ففيه حذف مضاف؛ أي: ردُّوا مثلها. وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: (({أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86])) أشار المصنِّف بهذه الآية في هذه التَّرجمة إلى أنَّ عموم الأمر بالتَّحيَّة مخصوصٌ بلفظ السَّلام كما دلَّت عليه الأحاديث المشار إليها في الباب الأوَّل [خ¦6227].
          واتَّفق العلماء على ذلك إلَّا ما حكاه ابن التِّين عن ابن خُوَيْزمِنْدَادٍ من المالكيَّة أو عن مالك: أنَّ المراد بالتَّحيَّة في الآية الهديَّة.
          لكن حكى القرطبي عن ابن خويلد: أنَّه ذكره احتمالاً، وادَّعى القرطبي أنَّه قول الحنفيَّة أيضاً.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ نسبة هذا إلى الحنفيَّة غير صحيحةٍ، واحتجَّ من قال: إنَّ المراد: الهديَّة، بأنَّ السَّلام لا يمكن ردُّه بعينه بخلاف الهديَّة، فإنَّ الَّذي يهدى له إن أمكنه أن يهدي بأحسن منها فعل وإلَّا ردَّها بعينها. والجواب عنه كما مرَّ من أنَّ المراد بالرَّدِّ: ردَّ المثل لا ردَّ العين وذلك سائغٌ كثير.
          وقد قال المفسِّرون: معنى الآية إذا سَلَّم عليكم المسلم فردُّوا عليه أفضل ممَّا سَلَّم، أو ردُّوا عليه بمثل ما سلَّم به، فالزِّيادة مندوبةٌ والمماثلة مفروضةٌ، ونقل القرطبي أيضاً عن أبي القاسم وابن وهب عن مالك: أنَّ المراد بالتَّحيَّة في الآية تشميت العاطس والرَّد على المُشمِّت. قال: وليس / في السِّياق دلالةٌ على ذلك، ولكن حكم التَّشميت والرَّد مأخوذٌ من حكم السَّلام والرَّدِّ عند الجمهور، ولعلَّ هذا هو الَّذي نحا إليه مالك، واتَّفقوا: على أنَّ من سلَّم لم يجزئ في جوابه إلَّا السَّلام، ولا يجزئ في جوابه: صُبِّحت بالخير أو بالسَّعادة ونحو ذلك، واختلف فيمن أتى بالتَّحيَّة بغير لفظ السَّلام هل يجب جوابه أم لا؟
          وأقلُّ ما يحصلُ به وجوب الرَّدِّ أن يُسمِعَ المبتدئ، وحينئذٍ يستحقُّ الجواب، ولا يكفي الرَّدُّ بالإشارة، بل ورد الزَّجر عنه، وذلك فيما أخرجه البزَّار من طريق عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رفعه: ((لا تشبهوا باليهود والنَّصارى، فإنَّ تسليم اليهود الإشارة بالإصبع، وتسليم النَّصارى بالأكف))، قال التِّرمذي: غريبٌ. وقال الحافظُ العسقلاني: وفي سندهِ ضعفٌ. لكن أخرج النَّسائي بسندٍ جيِّدٍ عن جابر ☺ رفعه: ((لا تسلموا تسليمَ اليهود فإنَّ تسليمهم بالرُّؤوس والأكف والإشارة)).
          قال النَّووي: ولا يرد على هذا حديث أسماء بنت يزيد: مرَّ النَّبي صلعم في المسجد، وعصبة من النِّساء قعودٌ، فألوى بيده بالتَّسليم، فإنَّه محمولٌ على أنَّه جمع بين اللَّفظ والإشارة. وقد أخرجه أبو داود من حديثها بلفظ: ((فسلَّم علينا)). انتهى.
          والنَّهي عن السَّلام بالإشارة مخصوصٌ بمن قَدِرَ على اللَّفظ حسًّا وشرعاً، وإلَّا فهي مشروعةٌ لمن يكون في شغلٍ يمنعه من التَّلفُّظ بجواب السَّلام كالمصلِّي والبعيد والأخرس، وكذا السَّلام على الأصم، ولو أتى بالسَّلام بغير اللَّفظ العربي هل يستحقُّ الجواب؟ فيه ثلاثة أقوالٍ للعلماء: ثالثها: يجب لمن يحسن بالعربية.
          وقال ابنُ دقيق العيد: الَّذي يظهر أنَّ التَّحيَّة بغير لفظ السَّلام من باب ترك المستحبِّ، وليس بمكروهٍ إلَّا إن قصد به العدول عن السَّلام إلى ما هو أعظمُ منه في التَّعظيم من أجل أكابر أهل الدُّنيا، ويجب الرَّدُّ على الفور، فلو أخَّر ثمَّ استدرك، فردَّ لم يعد جواباً، قاله القاضي حسين / وجماعة.
          وكأنَّ محلَّه إذا لم يكن عذر.
          ويجب ردُّ جواب السَّلام في الكتاب، أو مع الرَّسول، ولو سَلَّم الصَّبي على بالغٍ وجبَ عليه الرَّدُّ، ولو سلم على جماعةٍ فيهم صبيٌّ، فأجاب: أجزأَ عنهم في وجهٍ، والله تعالى أعلم.