نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: العجماء جرحها جبار والبئر جبار

          6912- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسي، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) أي: ابن سَعْدٍ، قال: (حَدَّثَنَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثني> بالإفراد (ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهري (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) المخزومي (وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابن عوف ☺ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: الْعَجْمَاءُ) مبتدأ (جُرْحُهَا) بدل منه وخبره قوله: (جُبَارٌ) أي: هَدْرٌ، والعجماء: تأنيث الأعجم وهي البهيمةُ سمِّيت عجماء؛ لأنَّها لا تتكلَّم.
          وقال التِّرمذي: فَسَّرَ بعضُ أَهْلِ العِلْمِ، قالوا: العجماء: الدَّابَّة المنفلتة من صاحبها، فما أصاب في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، والجَرح هنا، بفتح الجيم: مصدر، والجُرح، بالضم: اسم.
          قال القاضي: إنَّما عبَّر بالجُرح؛ لأنَّه الأغلبُ أو هو مثال منه على ما عداهُ، وسَقَطَ في روايةٍ لفظ <جرحها>، وحينئذٍ / فالمراد أنَّ البهيمةَ إذا أتلفت شيئًا ولم يكن معها قائدٌ ولا سائقٌ وكان نهارًا فلا ضمانَ، فإن كان معها أحدٌ من مالكٍ أو مستأجرٍ أو مستعيرٍ أو مودِّعٍ أو وكيلٍ أو غاصبٍ أو غيرهم وجبَ عليه ضمان ما أتلفته نفسًا ومالًا ليلًا أو نهارًا سواء كان سائقها أو قائدها أو راكبها؛ لأنَّها في يده وعليه تعهدها وحفظها، نعم، لو أرْكَبَها أجنبيٌّ بغيرِ إذن الولي صَبيًا أو مجنونًا لا يضْبِطُها مِثْلُهما، أو نخسها إنسانٌ بغير إذنٍ من صاحبها، أو غلبته فاستقبلها إنسانٌ فردَّها فأتلفت شيئًا في انصرافها فالضَّمان على الأجنبيِّ والنَّاخس والرَّاد، وبذلك قال مالكٌ والشَّافعي وأحمد.
          وقالت الحنفيَّة: لا ضمان فيما أتلفته البهائم مطلقًا سواء فيه الجرح وغيره، وسواءٌ فيه اللَّيل والنَّهار وسواءٌ كان معها أحدٌ أو لا إلَّا أن يحملها الَّذي معها على الإتلاف أو يقصده فحينئذٍ يضمن لوجود التَّعدِّي منه، وهو قولُ داود وأهل الظَّاهر، واحتجُّوا بأنَّ الحديثَ مطلقٌ عامٌّ، فوجب العَمَلُ بعمومه، وأمَّا التَّعدِّي فخارجٌ عنه.
          (وَالْبِئْرُ جُبَارٌ) البِئْر، بكسر الموحدة بعدها ياء ساكنة مهموزة وتسهل، وهي مؤنثة ويُذَكَّرُ على معنى القليب، والجمع: بؤور وآبار، بالمد بالتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة، إذا حفرها إنسانٌ في ملكه، أو في موات فوقع فيها إنسانٌ أو غيرُه فتَلِفَ فهو جبارٌ لا ضمانَ فيه، وكذا لو استأجر إنسانًا ليحفرها فانهارتْ عليه.
          نعم، لو حفرها في طريق المسلمين أو في ملك غيره بلا إذنٍ منه فتلفَ بها إنسانٌ، فإنَّه يجبُ ضمانُه على عاقلةِ الحافر والكفَّارة في ماله، وإن تلفَ بها غير آدميٍّ وَجَبَ ضمانُه في مال الحافر.
          قال ابن بطَّال: وخالف الحنفيَّةُ في ذلك فضمَّنوا حافرَ البِئر مطلقًا قياسًا على راكب الدَّابة، ولا قياسَ مع النَّصِّ فافْهم، ويلتحق بالبئر كلُّ حفرةٍ على التَّفصيل المذكور، وفي رواية مسلم: ((والبئر جرحها جبار))، والمراد بجرحها ما يحصلُ للواقع فيها من الجراحة.
          وقال ابنُ العربي: اتَّفقت الرِّواياتُ المشهورة على التَّلفُّظ بالبئر، وجاءت روايةٌ شاذَّةٌ بلفظ: ((النَّار جبار)) بنون وألف وراء، ومعناه عندهم: من استوقد نارًا ممَّا يجوز له فتعدَّت حتَّى أتلفت شيئًا فلا ضمانَ عليه.
          وقال بعضُهم: صحفها بعضهم؛ لأنَّ أهل اليمن / يكتبون النار بالياء لا بالألف، فظنَّ بعضُهم البئر، بالموحدة: النار، بالنون، فرواها كذلك.
          (وَالْمَعْدِنُ) بفتح الميم وسكون العين وكسر الدال المهملتين: المكان من الأرض يخرج منه شيءٌ من الجَوَاهِر والأَجْسَادِ كالذَّهب والفضَّة، والحديد، والرَّصاص، والكبريت وغيرها من عدن بالمكان إذا أقام به يعدِن، بالكسر، عُدُونًا سُمِّيَ به لعُدُوْنِ ما أَنْبَتَهُ اللهُ فيه، كما قال الأزهريُّ: إذا انهار على من حَفَر فهَلَكَ فدَمُه (جُبَارٌ) لا ضمانَ فيه كالبئر. ووَقَعَ في روايةٍ لأسودَ بنِ العلاء عند مسلم: ((والمعدنُ جرحُها جبار))، والحكم فيه قد تقدَّم في أوَّل الباب.
          (وَفِي الرِّكَازِ) بكسر الراء آخره زاي، بمعنى: مركوز، ككتاب بمعنى: مكتوب، وهو ما وُجِدَ من دفن الجاهليَّة ممَّا يجبُ فيه الزكاة من ذهبٍ أو فضَّةٍ مقدار ما يجبُ فيه الزَّكاة وهو النِّصاب (الْخُمُسُ) أي: يجب فيه الخمس على سبيل الزَّكاة الواجبة، كذا قال الشَّيخ زين الدِّين العراقي في «شرح الترمذي». ثمَّ قال: هذا عند جمهور العلماء، وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدّ، وفيه حجَّةٌ على أبي حنيفة وغيره من العراقيين حيث قالوا: الرِّكاز هو المعدن، وجعلوهما لفظين مترادفين، وقد عطف صلعم أَحَدَهما على الآخر، وذكر لهذا حُكْمًا غيرَ الحُكْم الَّذي ذكره في الأوَّل، انتهى.
          قال العيني: المعدن هو الرِّكاز فلمَّا أراد أن يذكرَ له حُكْمًا آخر ذكرهُ بالاسم الآخر وهو الرِّكاز، ولو قال: وفيه الخُمُس، بدون أن يقول: ((وفي الرِّكاز الخمس)) لحصل الالتباس باحتمالِ عَوْدِ الضَّمير إلى البئر، وفيه النَّظر.
          وقد أوردَ أبو عمر في «التمهيد» عن عَمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال رسول الله صلعم في كنزٍ وَجَدَه رجلٌ: ((إن كنت وجدته في قريةٍ مسكونةٍ، أو في سبيلٍ فعرفه، وإن كنت وجدته في خربة الجاهليَّة، أو في قريةٍ غير مسكونةٍ، أو في غير سبيلٍ ففيه وفي الرِّكاز الخمس)).
          وقال القاضي عياض: وعَطْفُ الرِّكاز على الكَنْزِ دليلٌ على أنَّ الرِّكاز غير الكَنْزِ، وإنَّه المعدن كما يقول أهل العراق فهو حجَّةٌ لمخالف الشَّافعي.
          وقال الخطَّابي: / الرِّكاز وجهان؛ فالمال الَّذي يوجد مدفونًا لا يعلم له مالك: ركاز، وعروق الذَّهب والفضَّة: ركازٌ، وعن هذا قال صاحب «الهداية»: الرِّكاز يُطلق على المعدن، وعلى المال المدفون.
          وقال أبو عُبيد الهروي: اخْتَلَفَ في تفسير الرِّكاز أهلُ العراقِ وأهلُ الحجاز، فقال أهل العراق: هي المعادن. وقال أهلُ الحجاز: هي كنوزُ أهل الجاهليَّة، وكلٌّ محتملٌ في اللُّغة، والأصل فيه قولهم: ركز في الأرض إذا نبت أصله.
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّ التَّرجمةَ بعضُ الحديث، وهذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ وأصحاب السُّنن الأربعة.