إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أبي بكرة: الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات

          4406- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ) بنُ عبدِ المجيدِ الثَّقفيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) السَّخْتِيانيُّ (عَنْ مُحَمَّدٍ) أي: ابنِ سيرينَ (عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ) هو عبدُ الرحمن (عَنْ) أبيهِ (أَبِي بَكْرَةَ) نُفَيعِ بنِ الحارثِ ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ) يومَ النَّحرِ في حجَّةِ الوداعِ: (الزَّمَانُ) هو اسمٌ لقليلِ الوقتِ وكثيرهِ، وأرادَ ههنا السَّنة (قَدِ اسْتَدَارَ) استدارةً (كَهَيْئَةِ) كذا في «اليونينية» وغيرها، وفي الفَرْع: ”كهيئته“ بهاء بعد فوقية، أي: مثلَ حالتِه (يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وسقطَتِ الجلالةُ من «اليونينية» وثبتت في فرعها فالكاف صفة مصدر محذوف، ودارَ: استدارَ، بمعنَى طافَ حولَ الشَّيءِ، وإذا عادَ إلى الموضعِ الَّذي ابتدأَ منهُ، والمعنى: أنَّ العربَ كانُوا يؤخِّرونَ المحرَّم إلى صفر، وهو النَّسيءُ المذكور في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}[التوبة:37] ليقاتِلُوا فيه، ويفعلون ذلك كلَّ سنةٍ بعد سنةٍ، فينتقلُ المحرَّم من شهرٍ إلى شهرٍ حتَّى جعلوهُ في جميعِ شهورِ السَّنةِ، فلمَّا كانت تلك السَّنةُ قد(1) عادَ إلى زمنهِ المخصوصِ به قيل: دارتِ السَّنةُ كهيئتِها الأولى.
          ‼(السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) جملةٌ مبينةٌ للجملةِ الأولى، والمعنى: أنَّ الزَّمانَ في انقسامهِ إلى الأعوامِ، والأعوام إلى الأشهرِ، عادَ إلى أصلِ الحسابِ والوضع الَّذي اختارهُ الله، ووضعهُ يومَ خلقَ السَّمواتِ والأرض (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي ”ثلاث“ (مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ) للقعودِ عن القتالِ (وَذُو الحِجَّةِ) للحجِّ (وَالمُحَرَّمُ) لتحريمِ القتالِ فيه (وَ) واحدٌ فردٌ، وهو (رَجَبُ مُضَرَ) عطفٌ على قولهِ «ثلاثةٌ»، وأضافه إلى(2) مُضر؛ لأنَّها كانَتْ تحافظُ على تحريمهِ أشدَّ من محافظةِ سائرِ العربِ، ولم يكن يستحلُّه أحدٌ من العربِ (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى) بضم الجيم وفتح الدال (وَشَعْبَانَ) قالهُ تأكيدًا وإزاحةً للرَّيبِ الحادث فيهِ من النَّسيءِ (أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟!) قال القاضِي البيضاويُّ: يريد به تذكارهُم حرمةَ الشَّهرِ وتقريرها في نفوسِهم؛ ليبني عليه ما أرادَ تقريرهُ (قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) مراعاةً للأدبِ وتحرُّزًا عن التَّقدُّم بين يدَي الله ورسوله، وتوقُّفًا فيما لا يعلم الغرض من السُّؤال عنه (فَسَكَتَ) صلعم (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ / ) ╕ : (أَلَيْسَ ذُو الحِجَّةِ؟) ولأبوي ذرٍّ والوقتِ ”ذا الحجَّة“ بالنصب خبرُ «ليس» (قُلْنَا: بَلَى) يا رسولَ الله (قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ) هو (البَلْدَةَ؟) نصب خبر «ليس» وبالتأنيث يريد مكَّة، والألف واللام للعهد (قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ) قال التُّورِبِشتيُّ: أرادَ أموالَ بعضكُم على بعضٍ.
          (قَالَ مُحَمَّدٌ) هو ابنُ سيرين: (وَأَحْسِبُهُ) أي: أبا بكرةَ (قَالَ) في روايته: (وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) أي: أنفسكُم وأحسابكُم، فإنَّ العِرضَ يُقالُ للنَّفسِ والحسب. قاله التُّورِبِشتيُّ، وتُعقِّبَ: بأنَّه لو كان المرادُ من الأعراض النُّفوس لكان تكرارًا؛ لأنَّ ذكر الدِّماءِ كاف؛ إذ المرادُ بها النُّفوسُ.
          وقال الطِّيبيُّ: الظَّاهر أن يرادَ بالأعراضِ: الأخلاق النَّفسانيَّة، والكلامُ فيها يحتاجُ إلى فضلِ تأمُّلٍ، فالمراد بالعِرضِ هنا الخلق، والتَّحقيقُ ما ذكره ابنُ الأثير: إنَّ العِرْضَ موضعُ المدحِ والذَّمِّ من الإنسانِ، سواءٌ كان في نفسهِ أو في سلفهِ، ولمَّا كان موضع العِرضِ النَّفس(3) قال من قال: العِرضُ النَّفسُ(4) إطلاقًا للمحلِّ على الحالِّ، وحينَ كان المدحُ(5) نسبة الشَّخصِ إلى الأخلاقِ الحميدةِ، والذَّمُّ نسبتهُ إلى الذَّميمةِ، سواءٌ كانت فيه أو لا، قال من قال: العِرضُ الخلقُ؛ إطلاقًا لاسمِ اللَّازم على الملزومِ.
          وشبَّه ذلك في التَّحريم بيوم النَّحر‼ وبمكَّة وبذِي الحجَّة فقال: (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) لأنَّهم كانُوا يعتقدون أنَّها محرَّمةٌ أشدَّ التَّحريمِ لا يُستباحُ منها شيءٌ، وفي تشبيهِ هذا مع بيانِ حرمةِ الدِّماءِ والأموالِ تأكيد(6) حرمة تلكَ الأشياء الَّتي شبَّه بتحريمها الدِّماءَ والأموالَ.
          وقال الطِّيبي: وهذا من تشبيهِ ما لم تجرِ به العادةُ بما جَرَت به العادةُ، كما في قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}[الأعراف:171] إذ(7) كانوا يستبيحونَ دماءَهُم وأموالَهُم في الجاهليَّة في غيرِ الأشهرِ الحرمِ ويحرِّمونها فيها، كأنَّه قال(8): إنَّ دماءكُم وأموالكُم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمَةِ يومِكُم(9) وشهركُم وبلدكُم.
          (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) يومَ القيامةِ (فَسَيَسْأَلُكُمْ) ولأبي ذرٍّ ”فيسألُكم“ (عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا) بالتخفيف (فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا) بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا) بالتخفيف (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ) القول المذكور، أو جميع الأحكامِ (فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ) بفتح الموحدة واللام المشددة (أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ، فَكَانَ مُحَمَّدٌ) هو ابنُ سيرينَ (إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: صَدَقَ مُحَمَّدٌ) ولأبي ذرٍّ ”النَّبيُّ“ ( صلعم ، ثُمَّ قَالَ) صلعم : (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟) قالها (مَرَّتَيْنِ).
          وسبق هذا الحديث في غير ما موضع [خ¦3197] [خ¦4662] [خ¦5550].


[1] «قد»: ليست في (س).
[2] «إلى»: ليست في (ص).
[3] في (م): «النفسي».
[4] في (م) و(ص) زيادة: «الخلق».
[5] «المدح»: ليست في (ص) و(م).
[6] في (ص): «تأبيد».
[7] «إذ»: ليست في (ص) و(م).
[8] في (ص): «قيل».
[9] في (م) زيادة: «هذا».