إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أنا النبي لا كذب

          4317- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بندارٌ العبديُّ قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) محمد بنُ جعفرٍ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بنُ الحجَّاجِ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عَمرو السَّبِيعِيِّ، أنَّه (سَمِعَ البَرَاءَ) بنَ عازبٍ (وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ) لم يعرفِ الحافظُ ابن حجرٍ اسمه: (أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ) البراءُ: فَرَرْنا (لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم ) وفي «اليونينية» وفَرْعها: ”لكنْ رسولُ الله صلعم “ بالرَّفع والنَّصب (لَمْ يَفِرَّ) بل ثبتَ وثبتَ معه أربعةُ نفرٍ، ثلاثةٌ من بني هاشمٍ ورجلٌ من غيرهم: عليٌّ والعبَّاس بين يديه، وأبو سفيانَ آخذٌ بالعنانِ، وابنُ مسعودٍ من الجانب، رواه ابنُ أبي شيبةَ من مرسلِ الحكمِ بنِ عُتيبة(1)، وعند التِّرمذي بإسناد حسنٍ من حديث ابنِ عُمر: «لقد رأيتُنَا يومَ حُنين وإنَّ النَّاس لمولُّون(2)، وما مع رسول الله صلعم مئةُ رجلٍ». وعند أحمد والحاكم عن ابنِ مسعودٍ: «فولَّى النَّاس عنه ومعه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار»، ولعلَّ الإمام النَّوويَّ لم يقفْ على هذه الرِّوايات حيثُ قال: إنَّ تقدير الكلامِ: أفررْتُم كلُّكم؟ فيدخلَ فيه النَّبيُّ صلعم ، فقال البراءُ(3): لا والله، لم يفرَّ النَّبيُّ صلعم ، ولكن (كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمِ انْكَشَفُوا) أي: انهزموا (فَأَكْبَبْنَا) بموحدتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة بعدها نون، أي: وقعنا (عَلَى الغَنَائِمِ) وفي «الجهاد» [خ¦2864] فأقبلَ النَّاس على الغنائم‼ (فَاسْتُقْبِلْنَا) بضم التاء وكسر الموحدة، أي: استقبلَهُم هوازن (بِالسِّهَامِ) أي: فولَّينا، قال الطَّبريُّ: الانهزام المنهيُّ عنه هو ما يقع على غير نيَّة العودِ، وأمَّا الاستطرادُ للكثرةِ فهو كالمتحيِّز إلى فئةٍ (وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ) ولأبي ذرٍّ ”النَّبيَّ“ ( صلعم عَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ) وعند مسلمٍ من حديث سلمةَ: «على بغلتهِ الشَّهباء» وعند ابنِ سعدٍ ومن تبعه: «على بغلتهِ دُلْدُل».
          قال الحافظُ ابن حجرٍ: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ دُلْدل أهداهَا له المُقَوْقس؛ يعني: لأنَّه ثبت في «صحيح مسلم» من حديث العبَّاس: «وكان على بغلةٍ بيضاء، أهداها له فروةُ بنُ نُفَاثة الجُذَاميُّ»، قال القطبُ الحلبيُّ: فيحتمل أن يكون يومئذٍ ركبَ كلًّا من البغلتين إن ثبت أنَّها كانت صحبتْهُ، وإلَّا فما في «الصَّحيح» أصحُّ. انتهى.
          وفي ركوبه صلعم البغلة يومئذٍ دَلالةٌ على فرط شجاعتهِ وثباتهِ.
          (وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ) زاد أبو ذرٍّ ”ابنَ الحارثِ“ (آخِذٌ) كذا في «اليونينية» وغيرها، وفي الفَرْع: ”لآخذٌ“ (بِزِمَامِهَا) وفي مسلمٍ عنِ العبَّاس: «ولَّى المسلمونَ مُدبرين، فطفقَ رسولُ الله صلعم يَرْكضُ بغلتَهُ قِبَلَ الكفَّار. قال العبَّاس: وأنا آخذٌ بلجامِ بغلةِ رسولِ الله صلعم أكفُّها إرادةَ أنْ لا تُسْرعَ، وأبو سفيانَ آخذٌ بركابهِ» فلعلَّهما تناوبا ذلكَ (وَهْوَ) ╕ (يَقُولُ): (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ) لم يذكر الشَّطر الثَّاني في هذه الرِّواية، وقد كان بعضُ أهل العلم _فيما حكاه السَّفاقسِيُّ_ يفتح الباء من قوله: ”لا كذبَ“ ليخرجه عن الوزن، وقد أجيبَ عن هذا بأنَّه خرجَ منه ╕ هكذا موزونًا، ولم يقصدْ به الشِّعر، أو أنَّه لغيره وتمثَّل هو ╕ به، وأنَّه كان:
أنْتَ النَّبيُّ لا كَذِبْ                     أنْتَ ابنُ عبدِ المطَّلبْ
          فذكره بلفظ: «أنا» في الموضعين.
          (قَالَ إِسْرَائِيلُ) بنُ يونسَ بنِ أبي إسحاق السَّبيعيُّ، ممَّا وصله / المؤلِّف في «الجهاد» [خ¦2864] (وَزُهَيْرٌ) هو ابنُ معاويةَ الجعفيُّ، ممَّا وصله في «باب من صفَّ أصحابه عند الهزيمة» [خ¦2930] فقالا في آخره: (نَزَلَ النَّبِيُّ صلعم عَنْ بَغْلَتِهِ) أي: واستنصرَ، أي: قال: «اللَّهمَّ أنزِل نصركَ»، ولمسلمٍ من حديث سلمةَ ابنِ الأكوعِ: فلمَّا غشوا النَّبيَّ صلعم نزل عن البغلةِ، ثمَّ قبضَ قبضةً من ترابٍ ثمَّ استقبلَ به وجوههم، فقال: «شاهتِ الوجوهُ» فما خلق الله منهم إنسانًا إلَّا ملأ عينيهِ(4) ترابًا بتلك القبضةِ، فولَّوا منهزمين.
          وقوله: «شاهتِ الوجوهُ» أي: قَبُحَت، وفيه عَلَمٌ من أعلامِ نبوَّته صلعم ، وهو إيصالُ تراب(5) تلكَ القبضةِ اليسيرةِ إليهم، وهم أربعة آلافٍ.


[1] في (د): «عتبة».
[2] في (د): «والناس لمولون»، وفي (ص): «والناس لمولين».
[3] في (م): «البراء بن عازب».
[4] في (م) و(ب): «عينه».
[5] «تراب»: ليست في (د).