إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت

          1281- 1282- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أويسٍ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكٌ) الإمامُ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) بفتح الحاء وسكون الزَّاي / ، و«عَمرو» بفتح العين (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ) هو أبو أفلح (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) أنَّها (أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ‼: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: لمَّا بلغها موت أبيها(1) أبي سفيان كما مرَّ [خ¦1280] (فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(2) صلعم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ) كبيرةٍ أو صغيرةٍ (تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) هو من خطاب التَّهييج؛ لأنَّ المؤمن هو الَّذي ينتفع بخطاب الشَّارع وينقاد له، فهذا الوصف لتأكيد التَّحريم لما يقتضيه سياقه، ومفهومه: أنَّ خلافه منافٍ للإيمان، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة:23] فإنَّه يقتضي تأكيد أمر التَّوكل(3) بربطه بالإيمان، وقوله: (تُحِدُّ) بحذف «أَنْ» النَّاصبة ورفع الفعل، مثل: تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه (عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ) من اللَّيالي (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) أي: فإنَّها تحدُّ عليه (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) فالظَّرف متعلِّقٌ بمحذوفٍ في المستثنى، دلَّ عليه الفعل المذكور في المستثنى منه، والاستثناء متَّصلٌ، إن جعل بيانًا لقوله: «فوق ثلاثٍ»، فيكون(4) المعنى: لا يحلُّ لامرأةٍ أن(5) تحدَّ أربعة أشهرٍ وعشرًا على ميِّت، إلَّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا، وإن(6) جعل معمولًا لـ «تحدَّ» مضمرًا، فيكون منقطعًا، أي: لكن تحدُّ على ميِّتٍ(7) زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا. قالت زينب بنت أبي سلمة: (ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِي أَخُوهَا) يحتمل(8) على بُعْدٍ أن يكون هو عُبَيد الله، بالتَّصغير، الَّذي مات كافرًا بالحبشة بعد أن أسلم، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر، ولا سيما إذا تذكَّر سوء مصيره، أو هو أخٌ لها من أمِّها، أو من الرَّضاع، وليس هو أخوها عبد الله _بفتح العين_ لأنَّه استُشهِدَ بأحدٍ، وكانت زينب إذ ذاك صغيرةً جدًّا، ولا أخوها أبو أحمد عبدٌ بغير إضافةٍ؛ لأنَّه مات بعد أخته زينب بسنةٍ، كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وقد استُشكِلَ التَّعبير بـ «ثمَّ» المقتضية للعطف على التَّراخي والتَّشريك في الحكم والتَّرتيب في قولها: «ثمَّ دخلت على زينب» إذ مقتضاه: أن تكون قصَّة زينب هذه بعد قصَّة أمِّ حبيبة، وهو غير صحيحٍ؛ لأنَّ زينب ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصَّحيح، وأُجِيبَ بأنَّ في دلالة «ثمَّ» على التَّرتيب خلافًا، ولئن سلَّمنا ضعف الخلاف؛ فإنَّ «ثمَّ» هنا لترتيب الإخبار لا لترتيب الحكم، وذلك كما تقول: بلغني ما صنعت اليوم، ثمَّ ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، أي: ثمَّ أخبرك بأنَّ الَّذي صنعته أمسِ أعجبُ (فَدَعَتْ(9)) أي: زينب بنت جحشٍ (بِطِيبٍ فَمَسَّتْ) زاد أبو ذَرٍّ: ”به“ أي: شيئًا من جسدها (ثُمَّ قَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَلَى المِنْبَرِ) زاد أبو ذَرٍّ: ”يقول“ : (لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ) بحذف «أَنْ» والرَّفع (عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) وهذا الحديث هو العمدة في وجوب الإحداد على الزَّوج الميِّت، ولا خلاف فيه في الجملة وإن اختُلِفَ في بعض فروعه، واستُشكِلَ بأنَّ مفهومه: «إلَّا على زوجٍ»، فإنَّه يحلُّ لها الإحداد، فأين الوجوب؟ وأُجيبَ بأنَّ الإجماع على الوجوب، فاكتفى به، وأيضًا فإنَّ في حديث أمِّ عطيَّة النَّهي الصَّريح عن الكحل، وعن لبس(10) ثوبٍ مصبوغٍ‼، وعن الطِّيب، فلعلَّه مستند(11) الإجماع، وفي حديث أمِّ سلمة(12) عند النَّسائيِّ وأبي داود قالت: قال النَّبيُّ صلعم : «لا تلبس المتوفَّى عنها زوجها المعصفر من الثِّياب» الحديث، وظاهره أنَّه مجزومٌ على النَّهي، وفي روايةٍ لأبي داود: «لا تحدُّ المرأة فوق ثلاثٍ إلَّا على زوجٍ، فإنَّها تحدُّ أربعة أشهرٍ وعشرًا» فهذا أمرٌ بلفظ الخبر؛ إذ ليس المراد معنى الخبر(13)، فهو على حدِّ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ}[البقرة:228] والمراد به: الأمر اتِّفاقًا، والله أعلم(14).


[1] في (ب): «أخيها»، وليس بصحيحٍ، نبَّه على ذلك الشيخ أمين السفرجلاني ☼ في نسخته.
[2] في (د) و(س): «النَّبيَّ»، وفي نسخةٍ بهامش (د) كالمثبت.
[3] في (م): «المتوكِّل».
[4] في (م): «ليكون».
[5] «أَنْ»: ليس في (د).
[6] في (ص): «فإن».
[7] «ميِّتٍ»: ليس في (ص) و(م).
[8] في (د): «يُحمَل».
[9] في (م): «ثمَّ دعت».
[10] في (م): «لمس»، وليس بصحيحٍ.
[11] في غير (د): «مسند».
[12] في غير (د): «عطيَّة»، وليس بصحيحٍ.
[13] قال السندي في «حاشيته»: قال القسطلاني: أجيبَ بكفاية الإجماع على الوجوبِ، وأيضًا جاء نهيٌ صريحٌ عن الكحل وغيره، ولعلَّه سندٌ للإجماع ولأبي داود: «لا تحدُّ المرأة فوق ثلاث إلَّا على الأزواج، فإنَّها تحدُّ أربعة أشهر وعشرًا»، فهذا أمرٌ بلفظ الخبر.
قلت: يكفي رواية الكتاب عمَّا ذكر من رواية أبي داود إلَّا أن يقال: غرضُه بيان موافقة رواية أبي داود لرواية الكتاب، والله تعالى أعلم.
ويحتمل أنَّه زعم أنَّ رواية الكتاب تحتمل التَّأويل بأن يقال: معنى «فإنَّها تحد» أي: يحلُّ لها أن تحدَّ بقرينة الكلام السَّابق بخلاف رواية أبي داود،والله تعالى أعلم.
[14] «والله أعلم»: ليس في (ص) و(م).