إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها

          7561- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هو ابن عبد الله المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هو ابن يوسف الصَّنعانيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابن راشدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلمٍ بن شهابٍ، ولفظ طريق عليِّ بن المدينيِّ سبقت في «باب الكهانة» من(1) «الطِّبِّ» [خ¦5762].
          (ح) لتحويل السَّند، قال المؤلِّف: (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد والواو (أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) أبو جعفرٍ البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا) وللأَصيليِّ ممَّا ليس في الفرع: ”أخبرنا“ (عَنْبَسَةُ) بعينٍ وموحَّدةٍ مفتوحتين بينهما نونٌ ساكنةٌ، ابن خالد بن يزيد ابن أخي يونس قال: (حَدَّثَنَا يُونُسُ) بن يزيد الأيليُّ وهو عمُّ عنبسة‼ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) / الزُّهريِّ قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ) أباه (عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام (يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ ♦ : سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صلعم ) بهمزةٍ مضمومةٍ، وهم ربيعة بن كعبٍ الأسلميُّ وقومه كما ثبت في «مسلمٍ» (عَنِ الكُهَّانِ) بضمِّ الكاف وتشديد الهاء، جمع كاهنٍ وهو الذي يدَّعي علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سببٍ، والأصل فيه استراق الجنِّيِّ السَّمعَ من كلام الملائكة فيلقيه في أذن الكاهن، وقال الخطَّابيُّ: الكهنة قومٌ لهم أذهانٌ حادَّةٌ ونفوسٌ شرِّيرةٌ وطباعٌ ناريَّةٌ، فألفتهم الشَّياطين لِمَا بينهم من التَّناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة فاشيةً في الجاهليَّة خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النُّبوَّة (فَقَالَ) ╕ : (إِنَّهُمْ) أي: الكهَّان (لَيْسُوا بِشَيْءٍ) أي: ليس قولهم بشيءٍ يعتمد عليه(2) (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا) هذا أورده السَّائل إشكالًا على عموم قوله ╕ : «إنَّهم ليسوا بشيءٍ» لأنَّه فَهِمَ منه أنَّهم لا يصدقون أصلًا (قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم ) مجيبًا عن سبب ذلك الصِّدق، وأنَّه إذا اتَّفق أن يصدق لم يتركه خالصًا، بل يشوبه بالكذب (تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ) بفتح التَّحتيَّة والطَّاء المهملة بينهما خاءٌ معجمةٌ، أي: يختلسها(3) بسرعةٍ من الملك، وسقط لأبي ذرٍّ «من(4) الحقِّ» ولأبوي ذرٍّ والوقت عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”يحفظها“ بحاءٍ مهملةٍ ففاءٍ فظاءٍ معجمة، من الحفظ(5)، قال الحافظ ابن حجرٍ: والأوَّل هو المعروف (فَيُقَرْقِرُهَا) أي: يردِّدها (فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ) الكاهن حتَّى يفهمها (كَقَرْقَرَةِ الدَُِّجَاجَةِ) بتثليث الدَّال، أي: صوتها إذا قطعته، يقال: قرَّت الدجاجة(6) تُقِرُّ قرًّا وقريرًا، وقرقرت قرقرةً، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”الزُّجاجة“ بالزَّاي المضمومة، وأنكرها الدَّارقطنيُّ وعدَّها من التَّصحيف، لكن وقع في «باب ذكر الملائكة» من «كتاب بدء الخلق» [خ¦3288] «فيقرُّها في أذنه كما تُقَرُّ القارورة» أي: كما يسمع صوت الزُّجاجة إذا حُكَّت على شيءٍ أو أُلقِي فيها شيءٌ، وقال القابسيُّ(7): المعنى: أنَّه يكون لِمَا يُلقيه الجنِّيُّ إلى الكاهن حسٌّ كحسِّ القارورة إذا حُرِّكت باليد أو على الصَّفا، وقال الطِّيبيُّ: «قرَّ الدَّجاجة(8)» مفعولٌ مطلقٌ، وفيه معنى التَّشبيه، فكما يصحُّ أن يشبَّه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصبِّ الماء في القارورة؛ يصحُّ أن يُشبَّه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدَّجاجة(9) صوتها في أذن صواحباتها، وباب التَّشبيه واسعٌ لا يفتقر إلى العلاقة، على أنَّ الاختطاف مستعارٌ للكلام من فعل الطَّير كما قال تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}[الحج:31] فيكون ذكر الدَّجاجة‼ هنا أنسب من ذكر الزُّجاجة؛ لحصول التَّرشيح في الاستعارة (فَيَخْلِطُونَ) أي: الأولياء، وجُمِع بعد الإفراد نظرًا إلى الجنس (فِي) المخطوف (أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كَذْبَةٍ) بسكون المعجمة وفتح الكاف، وحُكِيَ الكسر، وأنكره بعضهم؛ لأنَّه بمعنى الهيئة والحالة، وليس هذا موضعه.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث مشابهة الكاهن بالمنافق من جهة أنَّه لا ينتفع بالكلمة الصَّادقة لغلبة الكذب(10) عليه ولفساد حاله كما لا ينتفع المنافق بقراءته لفساد عقيدته، وانضمام خبثه إليها، قاله في «الكواكب» وقال في «الفتح»: والذي يظهر لي من مراد(11) البخاريِّ أنَّ تلفُّظ↕ المنافق بالقرآن كما يتلفَّظ↕ به المؤمن، فتختلف تلاوتهما والمتلوُّ واحدٌ، ولو كان المتلوُّ عين التِّلاوة، لم يقع فيه تخالفٌ، وكذلك الكاهن في تلفُّظه بالكلمة من الوحي التي يخبره بها الجنِّيُّ ممَّا يختطفه من المَلَك تلفظه بها، وتلفُّظ الجنِّيِّ مغايرٌ لتلفُّظ المَلَك فتغايرا.
          وسبق الحديث في «باب الكهانة» أواخر «الطِّبِّ» [خ¦5762].


[1] في (د): «في».
[2] في (د): «فيه».
[3] في (د): «يختطفها».
[4] «من»: ليس في (د).
[5] في (ص): «الحافظ».
[6] «الدجاجة»: مثبتٌ من (ع).
[7] في (ع): «السفاقسي»، والمثبت موافقٌ لما في «الفتح» (10/231).
[8] في غير (ب) و(س): «الزُّجاجة»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[9] في (ص): «الزجاجة»، وهو تحريفٌ.
[10] في (د): «الكذبة».
[11] «مراده»: ليست في (ب).