إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أبي موسى: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم

          7555- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ) الحجبيُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثَّقفيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) بن أبي تميمة، أبو بكرٍ السَّختيانيُّ الإمام (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بكسر القاف، عبد الله زيدٍ الجرميِّ (وَالقَاسِمِ) بن عاصمٍ (التَّمِيمِيِّ) وقيل الكلبيِّ، وقيل اللَّيثيِّ، كلاهما (عَنْ زَهْدَمٍ) بفتح الزَّاي وبالدَّال المهملة بينهما هاءٌ ساكنةٌ، ابن مضَرِّبٍ بالضَّاد المعجمة المفتوحة والرَّاء المشدَّدة المكسورة، من التَّضريب، أنَّه (قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الحَيِّ مِنْ جَرْمٍ) بفتح الجيم وسكون الرَّاء (وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ) جمع أشعريٍّ نسبةً إلى أشعر أبي قبيلة من اليمن (وُدٌّ) بضمِّ الواو وتشديد الدَّال، محبَّةٌ (وَإِخَاءٌ) بكسر الهمزة وتخفيف الخاء المعجمة ممدودًا، مؤاخاةٌ، قال(1): (فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيسٍ (الأَشْعَرِيِّ) ☺ (فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ) بضمِّ القاف مبنيًّا للمفعول، و«الطَّعام» معرَّفٌ، وللأَصيليِّ: ”طعامٌ“ كذا رأيته في أصلٍ معتمدٍ، وهو الذي في «اليونينيَّة» والذي في الفرع بالتَّنكير فقط غير معزوٍّ (فِيهِ لَحْمُ دَُِجَاجٍ) مثلَّث الدَّال، يقع على الذَّكر والأنثى (وَعِنْدَهُ) وعند أبي موسى (رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ الله) بفتح الفوقيَّة وسكون التَّحتيَّة، قبيلةٍ من قضاعة (كَأَنَّهُ) وللأَصيليِّ ممَّا ليس في الفرع ”كان“ (مِنَ المَوَالِي، فَدَعَاهُ) أبو موسى (إِلَيْهِ) أي: إلى لحم الدَّجاج (فَقَالَ) الرَّجل: (إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا) من النَّجاسة، وثبت ”شيئًا“ للكشميهنيِّ، وسقط لغيره (فَقَذِرْتُهُ) بكسر الذَّال المعجمة، أي: فكرهته (فَحَلَفْتُ، لَا آكُلُهُ) وللكشميهنيِّ: ”ألَّا آكله“ واختُلِف بالجَلَّالة فقال مالكٌ: لا بأس بأكل الجَلَّالة من الدَّجاج وغيره، إنَّما جاء النَّهي عنها للتَّقذُّر، ولأبي داود والنَّسائيِّ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: «نهى رسول الله صلعم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليَّة، وعن الجَلَّالة إذا تغيَّر لحمها بأكل النَّجاسة» وصحَّح النَّوويُّ أنَّه إذا ظهر تغيُّر لحم الجَلَّالة من نَعَمٍ أو دجاجٍ بالرَّائحة والنَّتن في عرقها وغيره كُرِه أكلها، وذهب جماعةٌ من الشَّافعيَّة _وهو قول الحنابلة_ إلى أنَّ النَّهي للتَّحريم، وهو الذي صحَّحه الشَّيخ أبو إسحاق المروزيُّ وإمام الحرمين والبغويُّ والغزاليُّ. ولم يُسَمَّ الرَّجل المذكور في الحديث، وفي سياق التِّرمذيِّ: أنَّه زهدم، وكذا عند أبي عَوانة في «صحيحه» ويحتمل أن يكون كلٌّ من زَهْدَم والآخر امتنعا من الأكل (فَقَالَ) أبو موسى له: (هَلُمَّ) تعال (فَلأُحَدِّثْكَ‼ عَنْ ذَاكَ) أي: فوالله لأحدِّثك، أي: عن الطَّريق في حلِّ اليمين، وفي أصل «اليونينيَّة»: ”فلْأحدِّثْك“ بسكون اللَّام والمثلَّثة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فلأحدثنَّك“(2) بنون التَّأكيد عن ذلك باللَّام قبل الكاف: (إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ) ما بين الثَّلاثة إلى العشرة من الرِّجال (نَسْتَحْمِلُهُ) نطلب منه أن يحملنا ويحمل أثقالنا في غزوة تبوك على شيءٍ من الإبل (قَالَ) صلوات الله وسلامه عليه: (وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ) أي: عليه (فَأُتِيَ النَّبِيُّ) بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول ( صلعم بِنَهْبِ إِبِلٍ) من غنيمةٍ (فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ)؟ فأتينا (فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسٍ ذَوْدٍ) بفتح الذَّال المعجمة وسكون الواو بعدها دالٌ مهملةٌ، وهو من الإبل ما بين الثَّنتين إلى التِّسعة، وقيل: ما بين الثَّلاثة إلى العشرة، واللَّفظة مؤنَّثةٌ لا واحد لها من لفظها كالنَّعم، وقال أبو عبيدٍ: الذَّود من الإناث دون الذُّكور، وفي «غزوة تبوك» [خ¦4415] ستَّة أبعرةٍ، وفي «الأيمان والنُّذور» [خ¦6718] بثلاثة ذودٍ، ولا تنافي في ذلك لأنَّ ذكر عددٍ لا ينافي غيره، وقوله: «خمس» بالتَّنوين، وفي رواية(3): بغير تنوينٍ على الإضافة، واستنكره أبو البقاء في «غريبه»(4) وقال: والصَّواب تنوين «خمس» وأن يكون «ذود» بدلًا من «خمس» فإنه لو كان بغير تنوينٍ لتغيَّر المعنى؛ لأنَّ العدد المضاف غير المضاف إليه، فيلزم أن يكون «خمس» خمسة عشر بعيرًا؛ لأنَّ الإبل الذَّود ثلاثةٌ(5)، وتعقَّبه الحافظ ابن حجرٍ فقال: ما أدري كيف حُكِم بفساد المعنى إذا كان العدد كذا، وليكن عدد الإبل خمسة عشر بعيرًا فما الذي يضرُّ؟ وقد ثبت في بعض طرقه: خذ هذين القرينين وهذين القرينين إلى أن عدَّ ستَّ مرَّاتٍ، والذي قاله إنَّما يتمُّ أنْ(6) لو جاءت روايةٌ صريحةٌ أنَّه لم يُعطهم سوى خمسة أبعرةٍ (غُرِّ الذُّرَى) بضمِّ الغين المعجمة وتشديد الرَّاء، و«الذُّرى» بالذَّال المعجمة المضمومة وفتح الرَّاء، جمع ذروةٍ، وهي أعلى كلِّ شيءٍ، أي: ذوي الأسنمة البيض من سمنهنَّ وكثرة شحومهنَّ.
          (ثُمَّ انْطَلَقْنَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟) بسكون العين / (حَلَفَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَا يَحْمِلُنَا) ولأبي ذرٍّ: ”أن لا يحملنا“ (وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا) بفتح اللَّام في الأخير(7) (تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم يَمِينَهُ) بسكون اللَّام، أي: طلبنا غفلته وكنَّا سبب ذهوله عمَّا وقع (وَاللهِ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ) صلوات الله وسلامه عليه (فَقُلْنَا لَهُ) ذلك (فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ) حقيقةً؛ لأنَّه خالق أفعال العباد، وهذا مناسبٌ لِمَا تُرجم به(8)، وقال ابن المُنيِّر(9): الذي يظهر أنَّ النَّبيَّ صلعم حلف لا يحملهم، فلمَّا حملهم راجعوه في يمينه، فقال: «ما أنا حملتكم، ولكنَّ الله حملكم» فبيَّن أنَّ يمينه إنَّما انعقدت‼ فيما يملك، فلو حملهم على ما يملك لحنث وكفّر، ولكنَّه حملهم على ما لا يملك ملكًا خاصًّا وهو مال الله، وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه هذا مع قصده ╕ في الأوَّل أنَّه لا يحملهم على ما لا يملك(10) بقرضٍ يتكلَّفه(11) ونحو ذلك، وأمَّا قوله صلعم عقب ذلك: «لا أحلف على يمين...» إلى آخره فتأسيس قاعدةٍ مبتدأةٍ كأنَّه يقول: ولو كنت حلفت ثمَّ رأيت ترك ما(12) حلفت عليه خيرًا منه لأحنثت نفسي وكفَّرت عن يميني، قال: وهم إنَّما سألوه ظنًّا أنَّه يملك حملانًا فحلف(13) لا يحملهم على شيءٍ يملكه؛ لكونه كان حينئذٍ لا يملك شيئًا من ذلك. انتهى. ووجَّهه البدر الدَّمامينيُّ في «مصابيحه»: بأنَّ مكارم أخلاقه صلعم ورأفته بالمؤمنين ورحمته بهم تأبى أنَّه صلعم يحلف على عدم حملانهم مطلقًا، قال: والذي يظهر لي أنَّ قوله: «وما عندي ما أحملكم» جملةٌ حاليَّةٌ من فاعل الفعل المنفيِّ بـ «لا» أو مفعوله، أي: لا أحملكم في حالة عدم وجداني لشيءٍ أحملكم عليه، أي: إنَّه(14) لا يتكلَّف حملهم بقرضٍ أو غيره لِمَا رآه من المصلحة المقتضية لذلك، وحينئذٍ فحمله لهم على ما جاءه من مال الله لا يكون مقتضيًا لحنثه، وأُجيب بأنَّ المعنى: إزالة المنَّة عنهم(15)، وإضافة النِّعمة لمالكها الأصليِّ، ولم يرد أنَّه لا صنع له أصلًا في حملهم؛ لأنَّه لو أراد ذلك ما قال بعد: (إِنِّي) ولأبي ذرٍّ: ”وإنِّي“ (وَاللهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ) أي: على محلوفِ يمينٍ، وسمَّاه يمينًا مجازًا للملابسة بينهما، والمراد ما شأنه أن يكون محلوفًا عليه، وإلَّا فهو قبل اليمين ليس محلوفًا عليه، فيكون من مجاز الاستعارة، ومثله صلَّى على قبره بعدما دُفِن، أي: صلَّى على صاحب القبر، وأطلق القبر على صاحب القبر، ويدلُّ لهذا التأويل رواية مسلمٍ حيث قال فيها بدل قوله: «على يمين»: «على أمرٍ» (فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا) أي: خيرًا من الخصلة المحلوف عليها (إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ(16)، وَتَحَلَّلْتُهَا) بالكفَّارة، وفي «الأيمان والنذور» [خ¦6718] «فأرى غيرها خيرًا منها إلَّا كفَّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خيرٌ» فقدَّم الكفَّارة على الإتيان، ففيه دلالةٌ على الجواز؛ لأنَّ الواو لا تقتضي التَّرتيب، وقد ذهب أكثر الصَّحابة إلى جواز تقدُّم الكفَّارة على اليمين، وإليه ذهب الشَّافعيُّ ومالكٌ وأحمد إلَّا أنَّ الشَّافعيَّ استثنى الصِّيام(17)، فقال: لا يجزئ(18) إلَّا بعد الحنث، واحتجُّوا له بأنَّ الصِّيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصَّلاة بخلاف العتق والكسوة والإطعام فإنَّها من حقوق الأموال، فيجوز تقديمها كالزَّكاة، وقال أصحاب الرَّأي‼: لا تجزئ قبله.
          والحديث سبق في «المغازي» [خ¦4385] و«النُّذور» [خ¦6649] و«الذَّبائح» [خ¦5518] وغيرها.


[1] «قال»: مثبتٌ من (د).
[2] زيد في (د): «بسكون اللَّام والمثلَّثة، ولأبي ذرٍّ عن الحمُّويي والمُستملي: فلأحدثنَّك»، وهو تكرار.
[3] في (د) و(ع): «ورُوِي»، و«رواية»: ليس في (ل).
[4] في (ع): «غرائبه».
[5] قال السندي في «حاشيته»: (فأمر لنا بخمس ذودٍ) وهو بإضافة خمسٍ إلى ذود، وذود: جمع (ناقة) معنى، وإضافة اسم العدد إليه تفيدُ أنَّ آحادها خمسٌ، كلُّ واحد من تلك الآحاد ناقةٌ لا ذود، كما أنَّ إضافة خمسة في قولك: عندي خمسة رجال، إلى رجالٍ؛ لإفادة أنَّ العدد لآحاد الرجال لا لنفس الجمع، وكلُّ واحد من الآحاد رجلٌ لا رجال.
ومثل: (خمس ذود) قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ}؛ لإفادةِ أن آحاد الرَّهط كانوا تسعة، وكلُّ واحد من تلك الآحاد رجل لا رهط. والحاصل: أنَّ اسم العدد من ثلاثة إلى عشرة يُضاف إلى الجمع لفظًا أو معنًى، لإفادة عدد آحاد ذلك الجمع لا تعدد نفس الجمع.
والعجبُ من أبي البقاء مع كمالهِ في علمِ العربية قال: الصَّواب تنوين «خمس»، فإنَّه لو كان بغير تنوين لتغير المعنى؛ لأنَّ العدد المضاف غير المضاف إليه، فيلزم أن تكون خمس خمسة عشر بعيرًا؛ لأنَّ أقلَّ الذَّود ثلاثة.
ثمَّ العجبُ من القسطلاني أنَّه قرَّرها على ذلك، فسبحان من لا يذهلُ ولا ينسى. والله تعالى أعلم. قال المحقق: والقسطلاني لم يقره على ذلك بل نقل تعقب الحافظ ابن حجر عليه في الفتح كما هو ظاهر في الشرح فتأمل.
[6] «أن»: ليس في (ص).
[7] في (د): «الآخرة».
[8] في (د): «له».
[9] في (ص): «الزُّبير»، وهو تحريفٌ.
[10] في (د): «يملكه».
[11] «يتكلَّفه»: ليس في (د).
[12] في (د): «تركي لما».
[13] زيد في (د): «أن».
[14] «إنه»: ليس في (د).
[15] في (د): «عليهم».
[16] زيد في غير (د) و(س): «منه»، وكذا في «اليونينيِّة».
[17] في (ب) و(س): «الصائم».
[18] في (د) و(ع): «يجوز».