إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن

          7371- 7372- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) الضَّحَّاك النَّبيل قال: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكِّيُّ (عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ) ولأبي ذرٍّ: ”عن يحيى بن محمَّد بن عبد الله“ (بْنِ صَيْفِي) بالصَّاد المهملة، مولى عمرو بن عثمان بن عفاَّن، المكِّيِّ، ونسبه في الأولى لجدِّه (عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) بفتح الميم والموحَّدة بينهما عينٌ مهملةٌ ساكنةٌ _نافذ_ بالنُّون والفاء والمعجمة (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ).
          قال البخاريُّ: (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبِي الأَسْوَدِ) / هو عبد الله(1) بن محمَّد بن أبي الأسود، واسمه حميدٌ البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ العَلَاءِ) بفتح العين ممدودًا، الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) الأمويُّ (عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ) ولأبي ذرٍّ وأبي الوقت والأَصيليِّ: ”عن يحيى بن محمَّد بن عبد الله“ (بْنِ صَيْفِي: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ(2)) نافذًا (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ) ولأبي ذرٍّ: ”قال“: (لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم مُعَاذًا نَحْوَ اليَمَنِ) ولأبي ذرٍّ: ”معاذ بن جبلٍ إلى نحو أهل اليمن“ أي: إلى جهة أهل اليمن، وهو من إطلاق الكُّلِّ وإرادة البعض؛ لأنَّ بعثه كان إلى بعضهم، لا إلى جميعهم (قَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ) بفتح الدَّال (عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ) هم اليهود (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى) أي: إلى توحيده، و«ما» مصدريَّةٌ (فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ) أي: التَّوحيد (فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ) ولأبي ذرٍّ: ”أنَّ الله قد فَرَضَ“ (عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلُّوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”زكاةً في أموالهم“ (تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ) بالإفراد (فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ) بالإفراد أيضًا (فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ) صدَّقوا به وآمنوا (فَخُذْ مِنْهُمْ) زكاة أموالهم (وَتَوَقَّ) اجْتنِبْ (كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) خيار مواشيهم أن تأخذها في الزَّكاة، والكريمة: الشَّاة الغزيرة اللَّبن، وفي الحديث دليلٌ لمن قال: أوَّل(3) واجبٍ المعرفة كإمام الحَرَمين، واستدلَّ بأنَّه لا يتأتَّى الإتيان بشيءٍ من المأمورات على قصد الامتثال ولا الانكفاف عن شيءٍ من المنهيَّات على قصد الانزجار إلَّا بعد معرفة الآمر الناهي، واعتُرِض عليه بأنَّ المعرفة لا تتأتَّى إلَّا بالنَّظر والاستدلال، وهي مقدِّمة الواجب فتجب، فيكون أوَّل واجبٍ النَّظر، وقال الزَّركشيُّ: اختُلف في التَّقليد في ذلك على مذاهب أحدها _وهو قول الجمهور_: المنع؛ للإجماع على وجوب المعرفة، وبقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}[محمد:19] فأمر بالعلم بالوحدانيَّة‼، والتَّقليدُ لا يفيد العلم، وقد ذمَّ الله تعالى التَّقليد في الأصول، وحثَّ عليه في الفروع(4)، فقال في الأصول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزخرف:23] وحثَّ على السُّؤال في الفروع بقوله تعالى: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الأنبياء:7] والثَّاني: الجواز؛ لإجماع السَّلف على قبول كلمتَي الشّهادة من النَّاطق بهما، ولم يقل أحدٌ له(5): هل نظرت أو تبصَّرت بدليلٍ؟ والثَّالث: يجب التَّقليد، وأنَّ النَّظر والبحث فيه حرامٌ، والقائل بهذا المذهب طائفتان: طائفةٌ ينفون النَّظر ويقولون: إذا كان المطلوبُ في هذا العِلْمَ، والنَّظر لا يفضي إليه، فالاشتغال به حرامٌ، وطائفةٌ يعترفون بالنَّظر لكن يقولون: ربَّما أوقع النَّظر في هذا في الشُّبَهِ، فيكون ذلك سببَ الضَّلال، وقد زلَّ به طائفةٌ من العقلاء، فيحرم الاشتغال به لأجل ذلك، وقد يُتَوهَّم أنَّ هذا مذهب الشَّافعيِّ وغيره من السَّلف(6)؛ لنهيهم عن علم الكلام والاشتغال به، ولا شكَّ أنَّ منعهم منه ليس هو لأنَّه ممنوعٌ مطلقًا، كيف وقد قطع أصحابه بأنَّه من فروض الكفايات؟! وإنَّما منعوا منه لمن لا يكون له قَدَمٌ(7) في مسالك التَّحقيق، فيؤدِّي إلى الارتياب والشَّكِّ نحو الكفر، وذكر البيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» هذا قال: وكيف يكون العلم الذي يتوصَّل به إلى معرفة الله وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النَّبيِّ الصَّادق والمتنبِّئ مذمومًا أو مرغوبًا عنه؟ ولكنَّهم لإشفاقهم على الضَّعَفة ألَّا يبلغوا ما يريدون منه فيضلُّوا نَهَوا عن الاشتغال به، ونقل عن الأشعريِّ أنَّ إيمان المقلِّد لا يصحُّ، وأنَّه يقول بتكفير العوامِّ، وأنكره الأستاذ أبو القاسم القشيريُّ وقال: هذا كذبٌ وزورٌ من تلبيسات الكرَّاميَّة على العوامِّ، والظَّنُّ بجميع عوامِّ المسلمين أنَّهم مصدِّقون(8) بالله تعالى، وقال أبو منصورٍ في «المقنع»: أجمع أصحابنا على أنَّ العوامَّ مؤمنون عارفون بالله تعالى، وأنهم حَشْو الجنَّة / ؛ للإخبار والإجماع فيه، لكنَّ منهم من قال: لا بدَّ من نظرٍ عقليٍّ في العقائد، وقد حصل لهم منه القدر الكافي، فإنَّ فِطَرَهم جُبِلت على توحيد الصَّانع وقِدَمِه وحُدوث الموجودات، وإن عجزوا عن التعبير عنه على اصطلاح المتكلِّمين، فالعلم بالعبارة علمٌ زائدٌ لا يلزمهم، وقد كان النَّبيُّ صلعم يكتفي من الأعراب بالتَّصديق، مع العلم بقصورهم عن معرفة النَّظر بالأدلَّة، ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ وسبق أوَّل «الزَّكاة» [خ¦1458].


[1] زيد في (ب) و(س): «بن معاذ» وهو خطأٌ.
[2] في (س): «سعيد» ولعلَّه تحريفٌ.
[3] في (ع): «أوله».
[4] في (ب): «الفرع».
[5] في (ع): «لهم».
[6] قوله: «وقد زلَّ به طائفةٌ من العقلاء... مذهب الشَّافعيِّ وغيره من السَّلف» مثبتٌ من (د).
[7] زيد في (د): «صدق».
[8] في (د): «يصدِّقون».