الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قول النبي: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء»

          ░25▒ (باب: قَول النَّبيِّ صلعم: لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الكِتَاب عَنْ شَيْءٍ) [إلى آخره]
          قالَ الحافظُ: هذه التَّرجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وغيره مِنْ حديث جابر: أنَّ عمر أتى النَّبيَّ صلعم بكتاب أصابه مِنْ بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسعه إلَّا أن يتَّبعني)) ورجاله موثَّقون إلَّا أنَّ في مجالدٍ ضعفًا، قالَ ابنُ بطَّالٍ عن المهلَّب: هذا النَّهي إنَّما هو في سؤالهم عمَّا لا نصَّ فيه، لأنَّ شرعنا مكتفٍ بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نصٌّ ففي النَّظر والاستدلال غنًى عن سؤالهم، ولا يدخل في النَّهي سؤالهم عن الأخبار المصدِّقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السَّالفة.
          وأمَّا قوله تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94] فالمراد به مَنْ آمن منهم، والنَّهي إنَّما هو عن سؤال مَنْ لم يؤمن منهم، ويحتمل أن يكون الأمر يختصُّ بما يتعلَّق بالتَّوحيد والرِّسالة المحمَّديَّة وما أشبه ذلك، والنَّهي عمَّا سوى ذلك. انتهى.
          قلت: وقد تقدَّم منِّي أنَّ الإمام البخاريَّ طالما أشار في هذا الكتاب إلى المسائل الأصوليَّة، فهكذا هاهنا عندي أنَّه أشار إلى مسألة أخرى خلافيَّة، وهي شرائع مَنْ قَبْلَنا هل تلزمنا مطلقًا أو لا؟ ففي «نور الأنوار»: قال بعضهم: تلزم علينا مطلقًا، وقال بعضهم: لا تلزمنا قطُّ، والمختار أنَّ شرائع مَنْ قبلنا تلزمنا إذا قصَّ اللهُ ورسولُه مِنْ غير إنكار، وهذا أصل كبير لأبي حنيفة يتفرَّع عليه أكثر الأحكام الفقهيَّة، فمثال ما لم يُنكر علينا بعد نقل القصَّة قوله تعالى: {َكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية(1) [المائدة:45] فهذا كلُّه باقٍ علينا، ومثال ما أنكره علينا بعد القصَّة قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام:146]، ثمَّ قالَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:146]، فعلم أنَّه لم يكن حرامًا علينا... إلى آخر ما قال.
          وقالَ الحافظُ ابن كثير تحت قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} الآية [المائدة:45]: وقد استدلَّ كثير ممَّن ذهب مِنَ الأصوليِّين والفقهاء إلى أنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنا شرعٌ لنا إذا حُكِيَ مقرَّرًا ولم يُنْسَخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وقد حكى الشَّيخ أبو زكريَّا النَّواوي(2) في هذه المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها: أنَّ شرع إبراهيم حجَّة دون غيره، وصحَّح منها عدم الحجِّيَّة، ونقلها الشَّيخ أبو إسحاق الإسفرايينيُّ أقوالًا عن الشَّافعيِّ وأكثرِ الأصحاب، ورجَّح أنَّه حجَّة عند الجمهور مِنْ أصحابنا، فالله أعلم. انتهى.


[1] قوله: ((الآية)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((النووي)).