الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما كان النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي

          ░8▒ (باب: مَا كَانَ النَّبيُّ صلعم يُسْأَلُ ممَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الوَحْيُ...) إلى آخره
          قالَ الحافظُ: أي: كان له إذا سئل عن الشَّيء الَّذِي لم يوح إليه، فيه حالان: أمَّا أن يقول: لا أدري، وأمَّا أن يسكت حَتَّى يأتيه بيان ذلك بالوحي، ولم يذكر لقوله: (لا أدري) دليلًا فإنَّ كلًّا مِنَ الحديثين المعلَّق والموصول مِنْ أمثلة الشِّقِّ الثَّاني، وأجاب عن(1) المتأخِّرين بأنَّه استغنى بعدم جوابه [به]، والَّذِي يظهر أنَّه أشار بالتَّرجمة إلى ما ورد في ذلك، ولكنَّه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجَّة كعادته في أمثال ذلك، وقد وردت فيه عدَّة / أحاديث، منه(2) حديث ابن عمر: ((جاء رجل إلى النَّبيِّ صلعم فقال: أيُّ البقاع خيرٌ؟ قال: لا أدري، فأتاه جبريل(3) فسأله فقال: لا أدري؟ فقال: سل ربَّك فانتفض جبريل(4) انتفاضة...)) الحديث، أخرجَه ابنُ حبَّان. وأمَّا حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ما أدري الحدود كفَّارة لأهلها أم لا))؟ وهو عند الدَّارقطني والحاكم، فقد تقدَّم في شرح حديث عبادة مِنْ كتابِ العلم الكلام عليه. انتهى مختصرًا.
          قلت: ومثله ما أخرجه الإمام أبو داود في باب: التَّخيير بين الأنبياء ‰ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((ما أَدْرِي أَتُبَّع لَعِينٌ هُو أمْ لا؟ وَمَا أدري أعُزَير نبيٌّ هو أم لا؟)) قالَ الشَّيخ في «البَذل»: وهذا قبل أن يوحى إليه في أمره، ثمَّ أعلمَه الله بعد ذلك أنَّه أسلم، فقد روى أحمد مِنْ حديث سهل السَّاعدي قال: قال رسول الله صلعم: ((لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فإنَّه قد أسلم)) وقوله: ((أَعُزَيرٌ نَبِيٌّ هُو أمْ لا؟)) لعلَّه أُعْلِم بعد ذلك أنَّه نبيٌّ. انتهى مِنَ «البذل».
          وفي «هامش اللَّامع» بعد ذكر أقاويل الشُّرَّاح في غرض التَّرجمة: والأوجَهُ عندَ هذا العبدِ الضَّعيفِ: أنَّ غرض المصنِّف بهذه التَّرجمة الإشارة إلى مسألة خلافيَّة شهيرة، وهي هل كان للنَّبيِّ صلعم حقُّ الاجتهاد أم لا بدَّ له مِنِ انتظار الوحي؟ ذكر الحافظ الإشارة إلى هذه المسألة في باب سيأتي بعد عدَّة أبواب مِنْ قولِه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] إذ قال: ويحتمل أن يكون مراده الإشارة إلى الخلافيَّة المشهورة في أصول الفقه، وهي: هل كان له صلعم أن يجتهد في الأحكام أم لا؟ انتهى.
          والأوجَهُ عندي: أنَّ الإمام البخاريَّ أشار إلى هذه المسألة بهذا الباب لا بالباب الآتي، ثمَّ ذكر في «هامش اللَّامع» تفصيل الأقوال في هذه المسألة، وفيه: قالَ ابنُ رسلان في «شرح أبي داود» وتحت(5) حديث: ((لولا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي...)) إلى آخره: قد اختلف الأصوليُّون في هذه المسألة على أربعة أقوال، ثالثها: كان له أن يجتهد في الحروب والآراء دون الأحكام. ورابعها: الوقف.
          وقالَ النَّوويُّ في حديث الغيلة: وفيه جواز اجتهاده صلعم، وبه قال جمهور أهل الأصول، وقيل: لا يجوز لتَمَكُّنِه مِنَ الوحي، والصَّواب الأوَّل.
          وقال أيضًا: أمَّا أمور الدُّنْيا فاتَّفق العلماء على جواز اجتهاده صلعم فيها ووقوعه منه، وأمَّا أمور الدِّين فقال أكثر العلماء بالجواز، وحكاه العينيُّ عن الشَّافعيِّ وأحمد وأبي يوسف، قال السَّرخسيُّ في «المبسوط»: وهو الصَّحيح عندنا، لأنَّه إذا أجاز لغيره فله صلعم أولى، وقال جماعة: لا يجوز له لقدرته على اليقين، وحكاه الآبي(6) عن الجبائيِّ وابنه والإماميَّة... إلى آخر ما فيه، فارجع إليه لو شئت.


[1] في (المطبوع): ((بعض)).
[2] في (المطبوع): ((منها)).
[3] في (المطبوع): ((جبرئيل)).
[4] في (المطبوع): ((جبرئيل)).
[5] في (المطبوع): ((تحت)) بلا واو.
[6] في (المطبوع): ((الأبي)).