الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب إذا رأت المستحاضة الطهر

           ░28▒ (باب: إذا رَأَتِ المُسْتَحَاضَةُ الطُّهْر)
          اختلفوا في غرض المصنِّف على أقوالٍ بسطت في «اللَّامع» و«هامشه» وفيه: تحتمل ترجمة البخاريُّ ثلاثة أوجهٍ عند هذا الفقير، ولا يبعد إرادة الثَّلاثة معًا، فإنَّ البخاريَّ أودع الدَّقائق الكثيرة في التَّراجم.
          الأوَّل: التَّنبيه على اختلافهم في أقلِّ مدَّة الطُّهر، وعلى هذا فميل البخاريِّ على ما يظهر مِنْ ظاهر سياق أثر ابن عبَّاسٍ ☺ إلى أنَّه لا تحديد في ذلك.
          والوجه الثَّاني: أنَّ الإمام البخاريَّ أشار إلى ردِّ قول المالكيَّة: في مسألة الاستظهار، وهي مسألةٌ شهيرةٌ لهم، قال الموفَّق: قال مالكٌ: لا اعتبار بالعادة إنَّما الاعتبار بالتَّمييز، فإن لم تكن مميَّزةً استظهرت بعد زمان عادتها بثلاثة أيَّامٍ إن لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وهي بعد ذلك مستحاضةٌ، ولا عبرة بالاستظهار عند الأئمَّة الثَّلاثة قال ابن رشدٍ في «البداية» وأمَّا الاستظهار الَّذِي قال به مالكٌ: بثلاثة أيَّامٍ فهو شيءٌ انفرد به مالكٌ وأصحابه، وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعيَّ. انتهى.
          والوجه الثَّالث: الرَّدُّ على مَنْ منع وطء المستحاضة كما يدلُّ عليه قوله: (يَأتِيْهَا زَوْجُها)، والمسألة خلافيَّةٌ شهيرةٌ.
          قال ابن رشدٍ: اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوالٍ:
          1-فقال قومٌ: يجوز وطؤها، وهو الَّذِي عليه فقهاء الأمصار، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ وغيره.
          2-وقال قومٌ: لا يجوز، وهو مرويٌّ عن عائشة وبه قال النَّخَعيُّ والحكم.
          3-وقال قومٌ: لا يجوز ذلك إلَّا أن يطول ذلك بها. انتهى.
          وهو قول أحمد وفي روايةٍ: إلَّا أن يخاف زوجها العنت، وإن خاف على نفسه الوقوع في محظورٍ جاز على الرِّوايتين. انتهى مِنَ العينيِّ و«المغني».
          ويؤيِّد ذلك الوجه أثر ابن عبَّاسٍ في التَّرجمة، وهذا أوجه الوجوه الثَّلاثة عندي، لأنَّه لم يحكم في التَّرجمة بشيءٍ بل ذكرها بلفظ (إذا) وذكر في الجواب أثَّر ابن عبَّاسٍ، وأيَّده بقوله: (الصَّلاة أعظم)، فكأنَّه ☼ استدلَّ بجواز الصَّلاة على جواز الوطء بالأولويَّة، ولذا عقَّبه بحديث عائشة في قصَّة فاطمة المصرَّح بأمر الصَّلاة، وإثبات التَّرجمة بالأولويَّة معروفٌ في الأصول. انتهى ما في «هامش اللَّامع».
          وبسط الكلام على ذلك فيه أشدَّ البسط.
          ويحتمل في غرض التَّرجمة وجهٌ رابعٌ: وهو الإشارة إلى مسألةٍ شهيرةٍ خلافيَّةٍ وهي مسألة(1) الطُّهر المتخلِّل، بسطها الفقهاء / ولخَّصها صاحب «شرح الوقاية»، وقد ترجم البَيْهَقيُّ على أثر ابن عبَّاسٍ ☺ المذكور في التَّرجمة: باب: تَحِيضُ يَومًا وتَطْهُر يَومًا، قال ابن التُّركمانيِّ: الأصحُّ مِنْ مذهب الشَّافعيِّ في مثل هذا أنَّ الدَّم إذا انقطع على خمسة عشر يومًا أو ما دونها فالكلُّ حيض. انتهى.
          وذكر النَّوويُّ(2) في مذهبه قولين:
          الأوَّل: هذا.
          والثَّاني: أن أيَّام الدَّم حيضٌ، [وهو منصوص] وأيَّام النَّقَاء طُهرٌ، والقولان مصحَّحَان عند الشَّافعيَّة: ولكنَّ الأوَّل: صحَّحَه الأكثر، وهو منصوص الشَّافعيِّ، ويسمَّى قول السَّحب، والثَّاني: يسمَّى قول التَّلفيق واللَّقْط، قال النَّوويُّ: وبالتَّلفيق قال مالكٌ وأحمد، وبالسَّحب قال أبو حنيفة، واستدلَّ ابن قُدامة بقول التَّلفيق بأثر ابن عبَّاسٍ هذا، واستدلَّ الشَّافعيَّة والحنفيَّة بأنَّ الدَّم يسيل تارةً وينقطع أخرى، والبخاريُّ مال إلى قول التَّلفيق، واستدلاله على ذلك بحديث الباب ظاهرٌ، فإنَّ الإقبال والإدبار يعمُّ كلَّ حالٍ، قليلًا كان الدَّم أو كثيرًا، وكذا النَّقَاء، والله أعلم.


[1] قوله: ((مسالة)) ليس في (المطبوع).
[2] المجموع شرح المهذب2/501، روضة الطالبين1/162