الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من سمى النفاس حيضا

           ░4▒ (باب: مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا)
          كتب الشَّيخ في «اللَّامع» يعني بذلك أنَّهما معًا دمان يخرجان مِنَ الرَّحم، فلمَّا جاز إطلاق النِّفاس على الحيض جاز عكسه، لما فيهما مِنَ الاشتراك(1) المطلق، إطلاق أحدهما على الآخر، والغرض منه أنَّ اشتراكهما في تلك الصِّفة أو هذا الإطلاق لا يقتضي اشتراكهما في جملة أحكامهما، بل لكلٍّ منهما أحكامٌ مختصَّة، نعم يشتركان في بعض الأحكام، وفي الإطلاق المجازيِّ لكلٍّ منهم(2)، ويمكن أن يكون قوله: (حيضًا) مفعولًا أوَّلًا له، والنِّفاس مفعولًا ثانيًا، وعلى هذا فمطابقة الرِّواية للتَّرجمة ظاهرةٌ، والغرض منه دفع اشتراك أحكامهما باشتراك اسميهما، فصار الحاصل أنَّ ما ورد في الرِّوايات مِنْ إطلاق اسم النِّفاس على الحيض فإنَّه مجرَّد إطلاق اسمٍ للاشتراك بينهما في أنَّهما دمان خارجان مِنَ الرَّحم، وليس ذلك لكون أحكامهما متَّحدةً بأسرها ففيه شيءٌ [ما. انتهى].
          وفي «هامشه»: حاصل كلام الشَّيخ أنَّ هاهنا إشكالين:
          الأوَّل: في غرض التَّرجمة ما هو؟
          والثَّاني: في موافقة التَّرجمة للحديث، فإنَّ في الحديث عكسه، ولذا قيل: إنَّ التَّرجمة مقلوبةٌ، والصَّواب (باب: مَنْ سمَّى الحيض نفاسًا) وأطال الشُّرَّاح في هذين الأمرين بأقوالٍ مختلفةٍ، قال ابن بطَّالٍ: كان حقُّ التَّرجمة أن يقول: (باب: مَنْ سمَّى الحيض نفاسًا) فلمَّا لم يجد البخاريُّ للنَّبيِّ صلعم نصًّا في النِّفاس(3) وحكم دمها في المدَّة المختلفة وسمَّى(4) الحيض نفاسًا في هذا الحديث، فُهِم منه أنَّ حكم دم النِّفاس حكم الحيض في ترك الصَّلاة، لأنَّه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النِّفاس عينًا(5)، لاشتراكهما في التَّسمية مِنْ جهة اللُّغة أنَّ الدَّم هو النَّفس، ولزم الحكم لما لم ينصَّ عليه ممَّا نصَّ، وحكم للنُّفساء بترك الصَّلاة ما دام دمها موجودًا.
          وقال الكرمانيُّ: قال شارح التَّراجم: إن قيل: الحديث يدلُّ على تسمية الحيض نفاسًا لا العكس، فجوابه أنَّ تقديره: مَنْ سمَّى حيضًا بالنِّفاس بتقدير حرف الجرِّ وتقدُّمه، أو مَنْ سمَّى حيضًا النِّفاس بتقدير تقدُّمه فقط. انتهى.
          وهذا هو مختار الشَّيخ، وقال الحافظ: قيل: يحمل على التَّقديم والتَّأخير، والتَّقدير مَنْ سمَّى حيضًا النِّفاس، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (مَنْ سمَّى) مَنْ أطلق لفظ النِّفاس على الحيض، فيطابق ما في الخبر بغير تكلُّفٍ. انتهى.
          وعند هذا العبد الفقير إلى رحمة ربِّه العليا أنَّ غرض التَّرجمة واضحٌ لا خفاء فيه، وهو اشتراكهما في الأحكام، كما أشار إليه الشَّيخ في «اللَّامع»، ونصَّ به شيخ المشايخ في «التَّراجم» إذ قال: حاصل ما أراده البخاريُّ أنَّ إطلاق الحيض على النِّفاس، والنِّفاس على الحيض شائعٌ فيما بين العرب، فكانت(6) ما ثبت مِنَ الأحكام للحيض ثابتًا للنِّفاس أيضًا، فلم يصرِّح الشَّارح(7) بالتَّفصيل في النِّفاس، هذا غرضه مِنْ حيث القصَّة فتدبَّر. انتهى.
          وهذا هو غرض التَّرجمة عندي، أنَّ الإمام البخاريَّ لمَّا لم يجد على شرطه أحكامًا للنِّفاس، أثبت بالتَّرجمة أحكامهما متَّحدةً لاتِّحاد اللَّفظ والمعنى، فإنَّ / لفظ النِّفاس مشتركٌ، ومعناهما، أي: الدَّم الخارج مِنَ الرَّحم أيضًا متَّحدٌ.
          لا يقال: إنَّ بينهما اختلافًا في بعض الأحكام كما سيأتي، لأنَّ معناه أنَّ ما يثبت مِنَ الأحكام لأحدهما ثابتٌ للآخر، إلَّا ما خصَّه دليلٌ، وهذا كقوله صلعم في حديث يعلى بن أميَّة: ((اصْنَع في عُمْرَتِكَ ما تَصْنَعُ في حَجَّتِك)) مع أنَّ بينهما اختلافًا في بعض الأفعال.
          قال الحافظ: قال المهلَّب وغيره: لمَّا لم يجد المصنِّف نصًّا على شرطه في النُّفساء، ووجد تسمية الحيض نفاسًا في هذا الحديث فهم منه أنَّ حكم دم النِّفاس حكم دم الحيض، وتعقَّب بأنَّ التَّرجمة في التَّسمية لا في الحكم. انتهى.
          وأنت خبيرٌ بأنَّه لا يصحُّ التَّعقُّب، لأنَّ استدلال المصنِّف بهذه التَّسمية على الحكم، فإنَّ «الجامع الصَّحيح» ليس مِنْ كتب اللُّغة حتَّى يقال: إنَّه أراد بيان التَّسمية، ففي «هامش اللَّامع» على قول الشَّيخ: وفيه شيءٌ ما لعلَّه أشار بذلك إلى أنَّه إذا لم يكن بينهما اشتراكٌ في الأحكام فلم يبق لاتِّحاد الاسم فائدةٌ، ولذا قال العينيُّ: لا فائدة في التَّرجمة، وإليه أشار الحافظ بما تعقَّب على المهلَّب وغيره، وقد عرفت ما عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ الإمام البخاريَّ استدلَّ بذلك على اتِّحاد حكمهما، وقد أجاد في الاستدلال فما أدقَّ نظره! ☺ .


[1] في (المطبوع): ((الاشتراط)).
[2] في (المطبوع): ((منهما)).
[3] في (المطبوع): ((النفساء)).
[4] في (المطبوع): ((وسُمي)).
[5] في (المطبوع): ((حيضًا)).
[6] في (المطبوع): ((فكان)).
[7] أوجز المسالك1/579 وما بعدها