التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نهي النبي على التحريم

          ░27▒ باب نَهْي النَّبِيِّ صلعم عَلَى التَّحْرِيْمِ إلَّا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ
          وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ حِيْنَ أَحَلُّوا: (أَصِيْبُوا مِنَ النِّسَاءِ). هَذَا سلف مُسندًا، ويأتي فِي الباب مُسندًا أيضًا كما ستعلمه.
          قَالَ جَابِرٌ ☺: وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْهِمْ وَلكِن أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ.
          وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِيْنَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائز وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. / وَهَذَا تقدَّم مُسندًا فِي الجنائز [خ¦1278].
          7367- حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابن جُرَيْحٍ، قَالَ: عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ ☺.
          وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَريَّا حدَّثنا ابن جُرَيْح، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِر بن عَبْد اللهِ ☻ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُوْل اللهِ صلعم... الحَدِيْث. وفِيْهِ: (وَأَصِيْبُوا مِنَ النِّسَاءِ).
          7368- وَحَدِيْث الحُسَيْنِ _هُوَ ابن ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ_ عَنِ ابن بُرَيْدَةَ _هُوَ عبد الله_ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ المُزَنِيُّ _هُوَ ابن مُغَفَّلٍ ☻_، عَنِ رَسُوْل اللهِ صلعم قَالَ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ)، قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ: (لِمَنْ شَاءَ). كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.
          وَهَذَا سلف أيضًا [خ¦1183].
          الشَّرْح: ادَّعى ابن بطَّالٍ أنَّه وقع فِي بعض الأُمَّهاتِ باب النَّهي عن التَّحريم، قَالَ: وصوابه عَلَى يعني أنَّه محمولٌ عَلَى التحريم إلَّا ما عُلِمت إباحته عَلَى حَديث أمِّ عَطِيَّةَ.
          واختلف العلماء فِي هَذَا الباب:
          فذكر ابن البَاقِلاَّنِيِّ عن الشَّافعِيِّ: أنَّ النَّهي عنده عَلَى التحريم والإيجاب، وقاله كثيرٌ مِن النَّاس، وقال الجمهور مِن أصحاب مالكٍ وأبي حنيفة والشَّافعِيِّ، وكذلك الأمر عند الدَّهماء مِن الفقهاء وغيرهم موضوعٌ لإيجاب المأمور وحتْمِهِ إلَّا أَنْ يقوم دليلٌ عَلَى النَّدْب، وحكى أبُو التَّمَّامِ المالكِيُّ عن مالكٍ أنَّ الأمر عنده عَلَى الوجوب، وإلى هَذَا ذهب البُخَارِيُّ فِي هَذَا الباب أنَّ الأمر والنَّهي عَلَى الوجوب إلَّا ما قام الدَّليل عَلَى خلاف ذَلِكَ، وذهبت الأشعريَّةُ إِلَى أنَّ النَّهي لا يقتضي التَّحريم بل يُتوقَّف فِيْهِ إِلَى أن يَرِد الدَّليل.
          قال ابن البَاقِلاَّنِيِّ: وقال هَذَا فريقٌ مِن الفقهاء، وقال كثيرون مِن أصحاب الشَّافعِيِّ: إنَّ الأمر موضوعٌ للنَّدب إِلَى الفعل فإن اقترنَ به ما يدلُّ عَلَى كراهية تَرْكهِ مِن ذمٍّ أَوْ عقابٍ كَاَنَ واجبًا.
          وقال كثيرٌ مِن الفقهاء: واستشهد عليه الشَّافعِيُّ بقوله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، وأمثاله ممَّا ورد الأمر به عَلَى سبيل النَّدب، وقد دلَّ بعض كلامه عَلَى أنَّ مذهبه الوقْف، وقال الأَشْعَرِيُّ وكثيرٌ مِن الفقهاء والمتكلِّمين أنَّه محتمِلٌ للأمرين، وَهَذَا الَّذِي يقول به حجَّةُ الجماعة عَلَى أنَّ النَّهي عَلَى التحريم أنَّه مُوجِب اللُّغة ومقتضاها، وأنَّ مَن فعلَ ما نُهي عنه استحقَّ اسم العصيان لأنَّه لا يَنهى إلَّا عن قبيحٍ قبل النَّهي وعمَّا هُوَ له كارهٌ.
          وقد فَهِمت الأمَّة تحريم الزِّنا ونِكاح المحرَّمات والجمع بين الأختين، وتحريم بيع الغَرَر وبيع ما لَمْ يُقبض بمجرَّد نهي الله ونهي رسوله عن ذَلِكَ لا لشيءٍ سواه.
          وأمَّا الحجَّة لوجوب الأوامر: فإنَّ الله تَعَالَى أطلقَ أوامره فِي كتابه ولم يَقْرِنها بقرينةٍ وكذلك فعَلَ رسولُهُ، فعُلم أنَّ إطلاق الأمر يقتضي وجوبه، ولو افتقر إِلَى قرينةٍ لقُرِنت به، والعرب لا تعرِفُ القرائن وإنَّما هُوَ شيءٌ أحْدَثَهُ المتأخِّرون مِن المتكلِّمين، فلا يجوز أَنْ يُقال: إنَّ لفظ الأمر لا تأثير له فِي اللُّغة وَإنَّما يحتاج إِلَى قرينةٍ، وقد قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور:63]، فوجَبَ بهذا الوعيد حمْلُ الأمر عَلَى الوجوب، وحجَّة مَن قَالَ بالوقْف وطلب الدَّليل عَلَى أنَّ المراد بالأمر أنَّ الأمر قد يَرِد عَلَى معانٍ _أوضحناها فِي الأصول نحو الثلاثين معنى_ فالواجب أن ننظر، فإن وجدنا ما يدلُّ عَلَى غير الواجب حُمِل عليه، وإلَّا فظاهره الوجوب؛ لأنَّ قول القائل: افعل، لا يُفْهم مِنْهُ لا تَفعل ولا افعل إنْ شئت إلَّا أَنْ يَصِلَهُ بما يعقل به التخيير، وإذا عُدم ذَلِكَ وجبَ تنفيذ الأمر.
          واحتجُّوا عَلَى وجوب طلب الدَّليل والقرينةَ عَلَى المراد بالأمر فقالوا: اتَّفق الجميع عَلَى حسن الاستفهام عَلَى معنى الأمر إذَا ورد هل هُوَ عَلَى الوجوب أَوْ عَلَى النَّدب، ولو لَمْ يصلح استعماله فِيْهِ لقبح الاستفهام عنه؛ لأنَّه لا يحسُنُ أَنْ يستفهم هل أُريد باللَّفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه إذ لا يصلح إذَا قال القائل: رأيت إنسانًا أن يقال له: هل رأيت إنسانًا أَوْ حمارًا؟ وحسنَ أَنْ يُقَال له: أذكرٌ أم أنثى؟ لصلاح وقوعه عليهما، وقد ثبتَ قُبح الاستفهام مَعَ القرائن الدَّالَّة عَلَى المراد بالمحتمل مِن اللفظ، وإنَّما يسوغ الاستفهام مَعَ التباس الحال وعدم القَرَائن الكاشفة عن المراد.
          قَالَ ابن بطَّالٍ: وما ذكره البُخَارِيُّ فِي الباب مِن الآثار تبطِلُ هَذَا القول، فإنَّه ◙ حين أمرهم بالحلِّ وإصابة النِّساء بيَّن لهم أنَّ أمره إيَّاهم بإصابة النِّساء ليس عَلَى العُمُوم ولولا بيانه ذَلِكَ لكانت إصابتهم للنِّساء واجبةً عليهم، وكذلك بيَّن لهم بنهيه النِّساء عن اتِّباع الجنائز أنَّه لَمْ يكن نهيَ عزمٍ ولا تحريمٍ لولا بيانه ذَلِكَ لفُهم مِن النَّهي بمجرَّدِه التحريم، وكذلك بيَّن لهم أيضًا أنَّ أمره لهم بالصَّلاة قبلَ المغرب وأمره لهم بالقيام عن القراءة عند الاختلاف، ((هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ)). ليس عَلَى الوجوب؛ لأنَّه ◙ أمرَهُم بالائتلاف عَلَى ما دلَّ عليه القرآن وحذَّرهم الفُرقة، فإذا حدَثَت شُبهةً توجِب المنازعَةَ أمرهم بالقيام عن الاختلاف، ولم يأمرْهُم بترك قراءة القرآن إذَا اختلفوا فِي تأويله؛ لإجماع الأمَّة عَلَى قراءة القرآن لمن فَهِمَه ولمن لَمْ يفْهَمْهُ، فدلَّ أن قَوْلُهُ: (قُوْمُوْا عَنْهُ) عَلَى وجه النَّدب لا عَلَى وجه التحريم للقراءة عند الاختلاف.
          وكذلك رأي عُمَر ☺ فِي ترْكِ كتاب رَسُوْل اللهِ صلعم حين غَلَبَه الوجع مِن أجل تقدُّم العِلم عنده وعند جماعة المؤمنين أنَّ الدِّين قد أكمله الله، وأنَّ الأمَّة قد اكتفت بِذَلِكَ ولا يجوز أن يتوهَّم أنَّ هناك شيئًا بقي عَلَى رَسُوْل اللهِ صلعم تبليغُهُ فلم يُبَلِّغُهُ؛ لقوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة:67]، ولقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، وقد أنبأنا الله تَعَالَى أنَّه أكمَلَ الدِّين فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].
          وإذا ثبتَ هَذَا بان أنَّ قوله: (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) محمولٌ عَلَى ما أشار به عُمَر ☺ مِن أنَّه قولُ مَن قد غلبَهُ الوَجَع واشتغل بنفسه، واكتفى بما أخبرَ الله به مِن إكمال الدِّين، وبان بهذا مقدارُ علْم عُمَر ☺ وتبريزُه عَلَى ابن عبَّاسٍ ☻، فكلُّ أمرِ الله والرسول لَمْ يكن واجبًا عَلَى العِباد، وقد جاء معه مِن بيان النَّبِيِّ بتصريحٍ أَوْ بدليلِ ما فُهم مِنْهُ أنَّه عَلَى غير اللزوم، وقد فَهِم الصَّحابة ذَلِكَ مِن فحوى خِطَابه، وكلُّ أمرٍ عَرِي عن دليلٍ يخرجُهُ عن الوجوب وجبَ حملُهُ عَلَى الوجوب، إذ لو كان مراد الله به غير الوجوب لبيَّنه نبيُّه لأمَّته، فوجب أَنْ يكون ما عَرِي مِن بيانه أنَّه عَلَى غير الوجوب غير مفتقرٍ إِلَى طلب دليلٍ أَوْ قرينةٍ أنَّ المراد به الوجوب؛ لقيام لفظ الأمر بنفسِهِ، وكذلك ما عَرِيَ مِن نهيه مِن دليلٍ يُخرجه عن التَّحريم وجبَ حملُهُ عَلَى التَّحريم كحُكم الأمر سواءٌ، عَلَى ما ذهبَ إليه جمهور الفقهاء. /