التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: بعثت بجوامع الكلم

          ░1▒ بابُ قَوْلِهِ ◙: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ)
          7273- ذكر فيه حَديث أبي هُرَيرةَ ☺ قَال النَّبِيُّ صلعم: (بُعِثْتُ بٍجَوَامِعِ الكلِم وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.
          7274- وعنه ☺ أيضًا، عن النَّبيِّ صلعم قَال: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلَّا قد أُعْطِيَ مِنَ الِآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أَومِنَ _أَوْ آمَنَ_ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أن أكونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا إلى يَوْم القِيَامَةِ).
          الشرح: قال الجَوْهرِيُّ: جوامِعُ الكَلِم: القرآن جمعَ اللهُ فيه مِن الألفاظ اليسيرة منه معانيَ كثيرةً، قَال عُمَر بن عبد العزيز: عجبتُ لمن لاحنَ النَّاس كيف لا يعرِفُ جوامع الكَلِم؟! أي: كيف لا يَقتصر على الوجيز وترك الفُضُول، قَال الدَّاودِيُّ: وممَّا آتاه الله مِن جوامع الكَلِم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآية [الأعراف:99] فدخل في هذِه جميع الأمرِ والنَّهي وقبول الفرائض ومُرَاعاتِها، وكانت الأنبياء لا تُطنب، وإنَّما تقول جُمُلًا تؤدِّي بها ما أُمرت به وتبلِّغُ بها ما أرادت، وتوضِّح بها ما احتيجَ إلى إيضاحه.
          فَصْلٌ: (آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ) أي: صدَّقت بتلك الآياتِ لإعجازها لمن شهدها، كقَلْب العَصَا حيَّةً، وفرْق البَحْر لموسى، وكإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ وإحياء الموتى لعيسى ◙.
          (وَكَانَ الَّذِي أُعطيتُ أنا وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ): فكان آيةً باقيةً دُعي إلى الإتيان بمثله أهل التَّعاطي له، ومَن نزل بلسانه، فَعَجَزُوا عنه ثمَّ بقي آيةً ماثلةً للعقول إلى مَن يأتي إلى يَوْم القِيَامَةِ، يرون إعجاز النَّاس عنه رأي العين، والآيات التي أُوتيها غيره مِن الأنبياء قبله رُئي إعجازها في زمانهم، ثمَّ لم تَصحبهم إلَّا مدَّةَ حياتهم وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقيًا بعد نبيِّنا يتحدَّى النَّاس إلى الإتيان بمثلِهِ، ويُعْجِزُهم على مرور الأعصار، فكان آيةً باقيةً لكلِّ مَن أتى؛ فلذلك رَجَا أن يكون أكثرَهم تابعًا يَوْم القِيَامَةِ، ثمَّ إنَّ الله ╡ قد ضَمِن هذه الآية أنَّ لا يدخلها الباطل إلى يَوْم القِيَامَةِ بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وضَمِن نبيُّنا بقاءَ شريعته وإن ضيَّعَ بعضَها قومٌ بقوله: ((لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتِي على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خالفَهم حتَّى يأتيَ أمر الله وَهُم على ذلك)).
          فَصْلٌ: معنى (تَلْغَثُونَهَا): تأكلونُها، يعني: الدُّنيا، مِن اللَّغث وهو طعامٌ يُغشُّ بالشَّعِير. و(تَرْغَثُونَهَا): تَرْضَعُونَها مِن: رَغَث الجَدْيُ أُمَّه، إذا رَضِعَها، ومنه حَديث الصَّدقة: لا يُؤخذ منها الرمثى والماخِضُ و الرَّغُوث.
          وقال ابن بطَّالٍ: قوله: (وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا) أو تَرْغَثُونها. شكٌّ في أيِّ الكلمتين قَال ◙. فأمَّا اللَّغث _باللام_ فلم أجده فيما تصفَّحْتُ مِن اللُّغة، وأمَّا رغث _بالراء والغين المعجمة المفتوحة_ فمعروفٌ عِندهم، يُقال: رغثت كلُّ أنثى ولدَها، وأَرْغَثَتْهُ: أَرْضَعَتْهُ، فهي رَغُوثٌ كأنَّه قَال: أنتم تَرْضَعُونها. كما قَال عبد الله بن همَّامٍ للنُّعمان بن بَشِيرٍ: /
وَذَمُّوا لنا الدُّنيا وَهُم يَرْضَعُونَها                     أَفَاوِيقَ حتَّى مَا يَدِرُّ لها ثُعْلُ
          وكذا قَال الفرَّاء وأبو عبد الملك أنَّها باللام فلا يُعرف له معنى، وأمَّا الراء فمعناها: تَرْضَعُونَها، والرَّغث: الرِّضاع، وناقةٌ رَغُوثٌ، أي غزيرة اللَّبن، وكذلك الشاة.
          وكذلك قَال: (تَنْتَثِلُونَهَا) أي: تَسْتَخْرِجُونها، قَال أبو عُبَيدٍ: النَّثْل: تركُ الشيء بمرَّةٍ واحدةٍ، يُقال: أَنْثَلَ ما في كِنَانتِهِ إذا صبَّها وتركها.
          وذكر ابن سِيدَه أنَّ اللَّغث: الطعامُ المخلوطُ بالشَّعِير كالبَغِيث عن ثعلبٍ، وفي «المنتهى» لأبي المعالي: لغَثَ طعامَهُ ولَعِثه، بالغين والعين إذا فرَّقه عن يَعْقُوبَ، واللَّغِيثُ ما يَبْقَى في المَكُّوك مِن البُرِّ.
          قلت: فَعَلَى هذا يكون معناها، وأنتم تأخذون الطعام فتفرِّقونه لمن تريدون بعد حوزكم إيَّاهُ، ويكون أدخل في المعنى مِن الراء والعين التي ذكرها، وزعَمَ بعض مَن تكلَّم على هذا الحديث أنَّه رآه: تَلْعَقُونها _بالعين والقاف_ وهو متوجِّهٌ.
          فَصْلٌ: (مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ) ما يَفتح الله على أُمَّتِهِ، و(خزائن): جمع خِزَانةٍ، وهي الموضع الذي يَخْزَنُ فيها سُمِّي بذلك لأنَّها مِن سبب المخزون.
          وقوله: (مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَن) قَال ابن التِّين: صوابه (آمَنَ) ثلاثيٌّ، يُقال: آمنتُهُ على كذا وائتمنْتُهُ، قَال تعالى: {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:11] وقال: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران:75].
          (الذي أوتيه الأنبياء): أُوتي صالحٌ النَّاقةَ، وإبراهيمُ بَرَّد النَّار عليه، وموسى الآياتِ البيِّناتِ، وقد سلفتْ على نمطٍ آخرَ في كتاب العِلْم.