التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما كانَ النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي

          ░8▒ باب مَا كَاَنَ النَّبِيُّ صلعم يُسْأَلُ فيما لَمْ يَنْزَلْ عَلَيْهِ الوَحْيُ فَيَقُولُ: (لا أَدْرِي)
          أوَ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ولَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء:105]. وَقَالَ ابن مَسْعُوْدٍ ☺: سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ.. وقد أسلفه مُسندًا [خ¦125].
          7309- ثمَّ ساق حَديث جابرٍ ☺: (مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُوْلَ اللهِ صلعم يَعُوْدُنِي وَأَبُو بَكْرٍ ☺ وهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَيَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلعم ثمَّ صَبَّ عَلَيَّ وَضُوْءَهُ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللهِ _وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ: أيْ رَسُولُ اللهِ_ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آَيَةُ المِيْرَاثِ).
          هذا الحديث سلف [خ¦194]، وهذا الباب ليس على العُمُوم في أمره ◙ كما نبَّه عليه المهلَّب؛ لأنَّه قد علَّم أمَّتَهُ كيفيَّةِ القياس والاستنباط في مسائلَ لها أُصُولٌ ومعانٍ في كتاب الله ومشروع سُنَّته، ليريَهم كيف يَصنعون فيما عَدِموا فيه النُّصُوص، إذ قد عَلِم أنَّ الله تعالى لا بدَّ أن يكمل له الدِّين، والقياس هو تشبيهُ ما لا حكم فيه بما فيه حُكمٌ في المعنى، فشبَّه ◙ الحُمُر بالخيلِ، فقال: ((ما أُنزل عليَّ فيها شيءٌ غير هذِه الآية الفَاذَّةِ الجامعِةِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7])) وشبَّه دَين الله بدَين العِبَاد في اللزُّوم، وقال للتي أخبرته أنَّ أباها لم يحجَّ: ((أرأيتِ لو كان على أبيكِ دَيْنٌ أكنتِ قاضيته؟ فالله أحقُّ بالقضاء)).
          وهذا عامٌّ، وهذا هو نَفْس القياس عند العرب وعند العلماء بمعاني الكلام، وأمَّا سكوته ◙ حتَّى نزل الوحي فإنَّما سكت في أشياءَ مُعْضِلَةٍ ليست لها أُصُولٌ في الشريعة، فلا بدَّ فيها مِن إطلاعِ الوحي، ونحن الآن قد فَرَغت لنا الشرائع، وأكملَ الله الدِّين فإنَّما ننظُرُ ونقيسُ على موضوعاتها فيما أعضَلَ مِن النوازل.
          وقد اختلف العلماء: هل يجوز للأنبياء الاجتهاد؟ على قولين: أحدهما: لا، ولا يَحْكُمون إلَّا بوحيٍ. والثاني: يجوز أن يحكموا بما جرى مجرى الوحي مِن منامٍ وشبههِ.
          قال أبو التَّمَّام المالكيُّ: لا أعلم فيه نصًّا لمالكٍ والأشبه عندي جوازه لوجوده مِن الشارع، والاجتهاد علُوُّ درجةٍ وكمالُ فضيلةٍ، والأنبياء ‰ أحقُّ النَّاس بها، بل لا يجوز أن يمنعوا منها لِمَا فيها مِن جزيل الثَّواب، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وهم أفضلُ أُولي الأبصار وأعلمُهم، وقد ثبتَ عن رسول الله صلعم أنَّه اجتهد في أمر الحروب وتنفيذ الجيوش وقَدَّر الإعطاء للمؤلَّفِةِ قُلُوبهم، وأمر بنصبِ العَرِيشِ يوم بَدْرٍ في موضعٍ، فقال له الحُبَابُ بن المنذر: أبِوَحْيٍ نصبتَهُ ههنا أم برأيك؟ فقال: ((بل برأيي)) قال: الصَّوابُ نَصْبُهُ في موضعِ كذا، فسمَّاه ذا الرأيين فعمل برأيه، ولم يَنتظر الوحي وحَكَم بالمفاداة والمنِّ على الأسرى يوم بَدْرٍ بعد المشورة.
          وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] ولا تكون المشورة إلَّا فيما لا نصَّ فيه، ورُوي أنَّه ◙ أراد أن يَضمن لقومٍ مِن الأعراب ثُلُث ثمرِ المدينة، فقال له سَعْدُ بن مُعَاذٍ: والله يا رسول الله كنَّا كفَّارًا فما طَمِع أحدٌ أن يأخذ مِن ثمارنا شيئًا فلمَّا أعزنَّا الله بكَ نُعطيهم ثُلُث ثمارنا؟! ففعل بذلك رسول الله صلعم. وقد ذكر الله في كتابه قصَّة داودَ وسُلَيمانَ ╨ حين اجتهدا في الحكم في الحَرْث، ولا يجوز أن يختلفا مع ما فيه مِن نصٍّ موجودٍ.
          فَصْلٌ: اعترض بعض شيوخنا على البُخَارِيِّ في تبويبه؛ بقوله: فيقول: (لاَ أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ) فقال: ما ذكره ليس فيه قوله: (لاَ أَدْرِي) فَيُنْظَر.
          جوابه: / أنَّه استغنى بعدم جوابِهِ عنه به. واعترض الدَّاودِيُّ على قوله: (وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ) فقال: ليس كما قال بل كان يقوله بدليلِ حديثِ: ((عَسَى أن يكون نَزَعَهُ عِرْقٌ))، ولَمَّا رأى شبَهَ عُتْبةَ بابن وَلِيدةِ زَمْعَةَ قال لسَودَةَ: ((احْتَجِبِي منه))، وقال للذي قال: يكون لأحدنا الإبلُ كالغِزْلان فيجعلُها مع الجَرْباء فلا يَنْشَب أن يَجْرَبَ، فقال له: ((فمن أجرَبَ الأوَّلَ؟)).
          قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية [التوبة:122]، وقال عُمَر: إنَّ الرأي كان مِن رسول الله صلعم مُصيبًا لأنَّ الله تعالى كان يُريه، وإنَّما هو مِنَ الظنُّ والتكلُّفُ فلا تجعلوا حظَّ الرأي سُنَّةً للأمَّة. وقال عليٌّ: ما عندنا شيءٌ إلَّا كتاب الله وهذِه الصَّحيفة أو فَهْمٌ يُعطاه المرء في كتاب الله.
          وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} الآية [النساء:105]، وقال: وهذا هو الدَّليل ليس مَا زعم به البُخَارِيُّ أنَّه المنصوص، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] والاستنباط غير النصِّ، وسأل عُمَر رسول الله صلعم عن الكَلَالة فردَّه إلى الاعتبار ليعلم ذلك، وقال عُمَر ☺ لحَفْصةَ ♦: ما أرى أباك يعرِفُ الكَلَالة. وقال لابن عبَّاسٍ: احفظ عنِّي أنِّي لم أقل في الجدِّ ولا في الكَلَالةِ شيئًا ولم أستخلِفْ أحدًا.
          وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فلو لم يكن للاعتبار والدَّليل موضعٌ لكان يُؤخذ خِلاف ما في القرآن؛ لأنَّه لم ينصَّ على الجدِّ والإخوة، وقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية [الأنفال:75]، فلم يبيِّن صِفة مواريثهم، قال: وأجمعتِ الأمَّة على الاعتبار مع أنَّ الله تعالى رزَقَها العِصْمة ومنَحَها ما لم يُعْطِه للأمم مِن انقطاع الوحي عنها بعد نبيِّها.
          واختلف الصَّحابة في الجدِّ والكَلَالة والعَوْلِ وغير ذلك، ولم يَعِبْ بعضهم بعضًا ولا عابَ أحدهم الاعتبار، وإنَّما الرأي المذمومُ.
          واعترضه ابن التِّين فقال: ما ذكره الدَّاودِيُّ ليس بالبيِّن وإنَّما أراد البُخَارِيُّ أنَّه ◙ وقَفَ في أشياءَ فلم يتكلَّم فيها برأيٍ ولا قياسٍ وتكلَّم في أشياء برأيه، فبوَّب على كلٍّ مِن ذلك وأتى في كلِّ بابٍ بما بوَّب عليه.
          وقوله: (بِمَا أَنْزَلَ اللهُ). أي: بما علَّمَك الله.
          فَصْلٌ: وقوله: (وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ) أي: غَشِي كذا الرواية، يُقال: غُمِيَ فهو مُغْمِيٌ وأُغْمِيَ عليه فهو مُغْمى عليه. والوَضُوء بفتح الواو، والمصدر بالضمِّ على أفصح اللُّغات فيهما، وإن كان ابن التِّين قال: لم يختلف في الأوَّل أنَّه بالضمِّ.
          قال الدَّاودِيُّ: وفي هذا الحديث الوُضُوء للمريض، قال: وفيه دليلٌ أنَّ معنى الحديث الآخر ((لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) أنَّ ذلك لا يُفعل قبل نزول العلَّة، قال: وقول سُفْيَانَ: (قلت: يا رسول الله، وربَّما قال: أيْ رسول الله) يدلُّ على جواز الرواية بالمعنى، وليس كما قال لأنَّ هذا لا يتضمَّن حُكمًا وليس هو مِن قول رسول الله صلعم.