التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مَن شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين قد بين الله حكمهما

          ░12▒ باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُوْمًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمَا، لِيُفْهِمَ السَّائِلَ.
          قد أسلفناه بحديثه [خ¦6847]، وقد أسلفنا أنَّ هذا هو القياس بعينِهِ، والقياس في لغة العرب: التشبيه والتمثيل، ألَا ترى أنَّه ◙ شبَّه له ما أنكرَ مِن لون الغلام بما عُرِف في نِتَاجِ الإبل، فقال له: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟) إلى قوله: (لَعَلَّ عِرقًا نزعهُ) فأبانَ له بما يعرف أنَّ الإبل الحُمُر تنتج الأَوْرَقَ _أي الأغبر وهو الذي فيه سوادٌ وبياضٌ_ أنَّ كذلك المرأة البيضاء تَلِدُ الأسود، وكذلك قوله للمرأة التي سألتُهُ الحجَّ عن أبيها (فَقَالَ لها: أَرَأَيتِ...) إلى آخره، فشبَّه لها ◙ دَين الله بما تعرف مِن دَين العباد، غير أنَّه قال لها: (فَدَينُ اللهِ أحقُّ)، وهذا كلُّه هو عينُ القياس، وبهذين الخبرَين احتجَّ المُزَنيُّ على مُنكر القياس.
          قال أبو تمَّامٍ المالكِيُّ: أجمعت الصَّحابة على القياس، فمن ذلك أنَّهم أجمعوا على قياس الذَّهَب على الورِق في الزَّكاة. قلت: قد ثبتَ النصُّ فيه.
          وقال الصِّدِّيق: أقيلوا بيعتي، قالوا: لا والله لا نُقِيلك؛ رَضِيكَ رسول الله صلعم لديننا، أفلا نَرْضَاك لدُنيانا؟ فقاسَ الإمامة على الصَّلاة، وقاس الصدِّيق الزكاة على الصلاة، وقال: واللهِ لا أُفرِّق بين ما جمَعَ الله. وصرَّح عليٌّ بالقياس في شاربِ الخمرِ بمحضرٍ مِن الصَّحابة، وقال: إنَّه إذا سَكِر هَذِىَ وإذا هَذِى افترى، فحدَّهُ حَدَّ القاذف. وكذلك لَمَّا قال له الخوارج: لِمَ حكَّمت؟ قال: الله أمرَ بالحكمين في الشِّقاق الواقع بين الزَّوجين فما بين المسلمين أعظمُ.
          وهذا ابن عبَّاسٍ يقول: أَلَا اعتبروا، الأصابعَ بالأسنان اخْتَلَفَت منافعُها واستوت أُرُوشها، قال: أَلَا يتَّقِي الله زيدٌ يجعل ابنَ الابن ابنًا، ولا يجعل أبَ الأب أبًا.
          وكتب عُمَر ☺ إلى أبي موسى ☺ يعرِّفُهُ القضاء فقال له: اعرف الأشباه والأمثال وقِسِ الأمور عند ذلك. وهذا قد سلف [خ¦7307].
          واختلف عليٌّ وزيدٌ ☻ في قياس الجدِّ على الإخوة فقاس عليٌّ بسبيلٍ انشعَبَ منه شُعْبةٌ ثمَّ انشَعَب مِن الشُّعبة شُعْبتان، وقاس زيدٌ ذلك بشجرةٍ انشَعَب منها غُصنٌ وانشَعَبَ مِن الشُّعبة غُصنان. وقال ابن عُمَر ☻: وقَّت الشارع لأهل نجْدٍ ولم يوقِّت لأهل العراق، فقال عُمَر ☺: قيسوا مِن نحو العراق كنحو قَرْنٍ _وهذا سلف أيضًا_ [خ¦7307] قال / ابن عُمَر ☻: فقاس النَّاس مِن ذاتِ عِرْقٍ.
          ولو ذكرنا كلَّ ما قاسه الصَّحابة لكَثُر به الكتاب غير أنَّه موجود في الكُتُب لمن ألهمَهُ الله رُشدَه، وقد قيل للنَّخَعِيِّ: هذا الذي تُفتي به أشيئًا سمعته؟ قال: سمعتُ بعضَهُ وقِستُ ما لم أسمعه على ما سمعتُ. وربَّما قال: إنِّي لأعرِفُ بالشيء الواحد مائةَ شيءٍ.
          قال المُزَنيُّ: فوجدنا بعد رسول الله صلعم أئمَّةَ الدِّين فهموا عن الله تعالى ما أَنزلَ إليهم وعن الرسول ما أوجبَ عليهم ثمَّ الفقهاء إلى اليوم هلمَّ جرًّا، استعملوا القياس والنَّظائر في أمر دِينهم، فإذا ورد عليهم ما لم ينصَّ عليه نظروا، فإن وجدوه مُشبهًا لِمَا سبق الحُكم فيه مِن الشارع أَجَروا حُكمه عليه، وإن كان مخالفًا له فرَّقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحدٍ إنكار القياس؟! ولا يُنكر ذلك إلَّا مَن أعمى الله قلبَهُ وحبَّبَ له مخالفَةَ الجماعة.
          فَصْلٌ: وحديث ابن عبَّاسٍ ☻ فيه النِّيابة في الحجِّ، وقال به مالكٌ مرَّةً اتِّباعًا للحديث، ومنعَهُ أُخرى كأنَّه رآه مِن عَمَل الأبدان، وقال أُخرى: إن أوصى حجَّ عنه، وقال مرَّة: لا يحُجُّ عنه وإن أوصى، وقال ابن وَهْبٍ وأبو مُصَعبٍ: لا يحجُّ إلَّا الولد عن أبيه، وقال ابن حَبِيبٍ: جاءت الرُّخص في الحجِّ عن الكبير الذي لا يَنهض له إذا لم يحُجَّ، وعن أبٍ مات ولم يحُجَّ أن يحجَّ عنه ولده، وإن لم يوصِ ويجزيه إن شاء الله تعالى.