التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه

          ░3▒ باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤالِ وتَكَلُّفِ مَا لا يَعْنِيْهِ.
          وَقَولُهُ تَعَالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
          7289- ثمَّ ساق حَديث عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ ☺، أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِيْنَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيِءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ).
          7290- وحديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ☺ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم اتَّخَذَ حُجْرَةً مِن المَسْجِدِ مِنْ حَصِيْرٍ...) الحديث.
          7291- وحديث أَبِي مُوسَى ☺ قَالَ: سُئِلَ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ المَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: سَلُونِي، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ)... الحديث.
          7294- وحديث أنسٍ ☺ مثله، بزيادة: (لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ آَنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ)
          7295- في روايةٍ: قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: (أَبُوكَ فُلانٌ). ونَزَلَتْ الآَيَةَ السالفة [المائدة:101].
          7292- وحديث المُغِيرةِ في النَّهيِ (عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وإضاعة المال، وَكَثْرَة السُّؤالِ..). الحديث.
          7293- وحديث أنسٍ ☺: (كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ ☺ قَال: نُهِيْنَا عَنِ التكَلُّفِ).
          7296- وحديثه أيضًا قَال رسول الله صلعم: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءلُونَ حَتَّى يَقْولوا: اللهُ خَالِقُ كَلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟).
          7297- وحديث ابن مَسْعُودٍ ☺: (كُنْتُ مَعَ رسول الله صلعم فِي حَرْثٍ بِالمَدِيْنَةِ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، حدَّثنا عَنِ الرُّوحِ، فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَتَأخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الوَحيُ، ثمَّ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}) [الإسراء:85].
          الشَّرح: قد أسلف البُخَارِيُّ سبب نزول الآية من حَديث أنسٍ ☺، ورُوي مِن طريق أبي هُرَيرةَ ☺ أيضًا، وقيل إنَّما نهى عن هذا؛ لأنَّه سبحانه أحبَّ السَّتر على عباده رحمةً منه لهم، وأحبَّ أن لا يَقترحوا المسائل، وقال سَعِيدُ بن جُبَيرٍ: نزلتْ في الَّذين سألوا عن البَحِيرةِ والسَّائِبَةِ والوَصِيلةِ، أَلَا ترى أنَّ بعدها: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ} [المائدة:103]؟!. قَال ابن عَوْنٍ: سألتُ نافعًا عن هذه الآية، فقال: لم تَزَل كثرة السؤال منذ قطُّ تُكْرَه. وقال الحَسَنُ البَصْرِيُّ: في هذِه سألوه عن أمور الجاهليَّةِ التي عَفَا الله عنها، ولا وجه للسؤال عمَّا عفا الله عنه، وقيل: كان الذي سأل رسول الله صلعم عن أبيه يتنازعُهُ رجلان، فأخبَرَ بأبيه منهما، وأعلم ◙ أنَّ السؤال عن مِثل هذا لا ينبغي، وأنَّه إذا ظهَرَ فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدَّى ذلك إلى فضيحةٍ لا سيَّما وقت سؤاله رسول الله صلعم، ونزول الكِتاب في ذلك، وقد سلف في كتاب الفِتن كراهة أمِّ عبد الله بن حُذَافةَ لسؤاله رسول الله صلعم عن أبيه [خ¦7091]، وما قَالت له في ذلك فلسؤالهم له عمَّا لا ينبغي، وتعنيتُهُ مُوجِبٌ النَّارَ، وقد أَمَرَ الله تعالى المؤمنين بتعزيرِهِ وتوقيرِهِ، وأنْ لا يُرفع الصَّوت فوق صَوتهِ، وتوعَّدَ على ذلك بحبُوطِ العمل بقوله / تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، ألَا ترى فَهْم عُمَر ☺ لهذا الأمر وتلافيه له بأنْ بَرَكَ على ركبتيه، وقال: (رضينا بالله ربًّا وبالإسلامِ دِيْنًا وبمحمَّدٍ نبيًّا)، وقال مرَّةً: إنَّا نتوبُ إلى الله، فسكت ◙ وسكَنَ غضبُهُ، ورضِيَ قولَ عُمَر ☺ حين ذبَّ عن نبيِّهِ ونبَّه على التوبة ممَّا فيه إغضابُهُ أن يؤدِّي إلى غَضَبِ الله وقد ذَكَرنا شيئًا مِن هذا المعنى في كتاب الفِتن في باب التَّعوُّذ منها [خ¦7091]، والدَّليلُ على صواب فعْلِ عُمَر ☺ قوله ◙ بعد ذلك: (أَوْلى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْلى)، يعني لمن عَنَت نبيَّه في المسألة أو غضَّبَهُ، ومعنى (أولى) عند العرب: التَّهديد والوعيد.
          وقال المبرِّدُ: يُقال للرجل إذا أفلتَ مِن عظيمةٍ: أَوْلَى لكَ، أي: كَدْتَ تَهْلِكُ ثمَّ أفلتَّ.
          ويُروى عن ابن الحنفيَّةِ أنَّه كان يقول إذا ماتَ الميِّتُ في جِوَارهِ: أَوْلى لي، كَدْتُ واللهِ أن أكونَ السَّوادَ المُخْتَرَم.
          فَصْلٌ: قال المهلَّبُ: وأصلُ النَّهي عن كثرة السُّؤال، والتَّنطُّع في المسائل مبيَّنٌ في قوله تعالى في بقرة بني إسرائيلَ حين أَمَرهم بذبح بقرةٍ، فلو ذبحوا أيَّ بقرةً كانت لكانوا مُؤتَمرين غيرَ عاصِين، فلمَّا سألوا ما هي؟ وما لونُها؟ قيل لهم: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة:68]، فشقَّ عليهم، وقد كان ذلك مُباحًا لهم، ولذلك ضُيِّق عليهم في لونها فمُنعوا مِن غيره، ثمَّ لَمَّا قَالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، قيل لهم: لا ذَلُول حِرَاثةٍ، ولا ساقيةً للحَرْثِ. أي: مُعْلَمةٌ لاستخراج الماء، وقد كان ذلك مُباحًا لهم، فعزَّ عليهم وجود هذه الصِّفة المضيَّقِ عليهم فيها عقوبةً لسؤالهم عمَّا لم يكن لهم به حاجةٌ.
          فَصْلٌ: الآية السالفة وهي قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:11] فيها تحذيرٌ ممَّا أنزل الله تعالى بهؤلاء القوم، ثمَّ وعدَ أنَّه إنْ سألوا عنها حين نزول القرآن ضيَّق عليهم، وقد قَال بعض أصحابنا: إنَّه بقيتْ منه بقيَّةٌ مكروهةٌ، وهو أنَّ التَّنطُّع في المسألة والبحث عن حقيقتها يلزمُ فيها أن يأتي بذلك الشَّرع على الحقيقة التي انكَشَفَت له في البحث، وذلك مثلُ أن يَسأل عن سِلَع الأسواق الممكِن فيها الغَصْبُ والنَّهْبُ هل له شراءُ ذلك في سوق المسلمين، وهو ممكنٌ فيه هذا المكروه أم لا؟ فيُفتى بأنَّ له أن يُبتاع ذلك، ثمَّ إن تنطَّعَ فقال: إن قام الدَّليل على السِّلعة إنَّها مِن نَهْبٍ أو غَصْبٍ هل لي أن أشتريَها؟ فيُفتى بالمنع فهذا الذي بقيَ مِن كراهة السؤال والتَّنطُّع إلى الآن في النَّسخ الذي كان يمكن حين نزول القرآن والتضييق المشروع.
          وقد سُئل مالكٌ عن (قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) فقال: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كَرِهَ رسول الله صلعم المسائلَ وعابَها أو هو مسألة النَّاس أموالهم، وكان زيدُ بن ثابتٍ وأُبيُّ بن كعْبٍ وجماعةٌ مِن السَّلف يكرهون السؤال عنها ويرون الكلام فيها لم يَزَل مِن التكلُّف، وقال مَالِكٌ: أدركتُ أهل هذا البَلَد وما عند أحدِهم عِلْمٌ غير الكتاب والسُّنَّة، فإذا نزلت نازلةٌ جمع الأمير لها مَن حَضَر مِن العلماء فما اتَّفقوا عليه أنفَذَهُ، وأنتم تُكثرون المسائل، وقد كرهها رسول الله صلعم.
          وعبارة ابن التِّين هنا قيل: الإلحافُ فيه للفقير، وقيل: عمَّا لا يعنيه إمَّا مِن عِلْمٍ، وإمَّا مِن التَّجسُّس على النَّاس، ووقع لمالكٍ أنَّه قَال: والله ما نعرف إنْ كان الذي أنتم فيه مِن تفريع المسائل (قال وقيل)، أراد النَّهي عن أشياءَ سكتَ عنها، فكَرِهَ السؤال عنها لئلَّا يحرِّم شيئًا كان مسكوتًا عنه، ومِن ذلك قوله لذلك الرجل الذي قَال: ((أين مَدْخَلِي؟ قَال: النَّار))، وهذا كان في وسعٍ لو سكَتَ.
          فإن قلت: قد جاء في التنزيل ما يُعارض ذلك، وهو الأمرُ بسؤال العلماء والبحث عن العِلم، قَال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
          قلت: هذا ليس مِن ذاك فالمأمور هو ما تقرَّر وثبتَ وجوبُهُ، والمنهيُّ عنه هو ما تعبَّد الله تعالى عبادَهُ به ولم يَذكره في كتابه، وقد سُئل ابن عبَّاسٍ _☻_ عن الآية السالفة، وهي قوله: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، قَال: ممَّا لم يُذكر في القرآن فهو ممَّا عَفَا الله عنه. أَلَا ترى أنَّه تعالى لم يُجِبِ اليَهُود عن سؤالهم عن الرُّوح لَمَّا لم يكن ممَّا لهم به الحاجة إلى عِلمه وكان مِن عِلمه تعالى الذي لم يُطْلِع عليه أحدًا، فقال لنبيِّهِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: مِن عِلْمِهِ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فنسبَهم الله تعالى في سؤالهم عمَّا لا ينبغي لهم السؤال عنه إلى قلَّة العِلْم.
          وقال مَالِكٌ فيما رواه عنه أشهبُ: (قِيلَ وَقَالَ) هو هذه الأخبارُ والأراجيفُ في رأيي أعطى فلانًا كذا ومنعَ كذا بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} [التوبة:65]. فهؤلاء يَخُوضُون.
          وقد سلف الكلام على ذلك في الزَّكاة في باب: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] [خ¦1477]، وكذا الكلام في كثرة السؤال وما في الحديث، وأمَّا قول بعض اليَهُود حين سألوه عن الرُّوح: لا تَسألوه يُسمعكم ما تَكْرَهون، فإنَّما قَال ذلك، لعِلمه أنَّهم كانوا مُتَعنِّتين والمتعنِّتُ مِن عيوبِهِ أن يُخاطَبَ بما يَكره.
          فَصْلٌ: وأمَّا قوله ◙: (يسألون: هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟) فهو مِن السؤال الذي لا يحلُّ، وقد جاء هذا الحديث بزيادةٍ فيه مِن حَديث أبي هُرَيرةَ ☺ أنَّه ◙ قَال: ((لا يزال الشيطان يأتي أحدَكم، فيقول مَن خَلَق كذا مِن خَلَق كذا؟ حتَّى يقول: مَن خَلَق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم، فليقل: آمنتُ بالله)).
          ولأبي داودَ _بإسنادٍ جيِّدٍ_ مِن حَديث أبي هُرَيرةَ أنَّه ◙ جاءه ناسٌ مِن الصَّحابة، فقالوا: ((يا رسول الله إنَّا نجِدُ في أنفسنا الشيءَ يَعْظُم أن نتكلَّم به ما نحبُّ أنَّ لنا الدُّنيا، وأنَّا تكلَّمنا بها، فقال: أوَ قد وجدتموه، قَالوا: نعم، قَال: ذاك صَرِيحُ الإيمان)).
          ولابن أبي شَيْبةَ مِن حَديث الأعمشِ، عن ذرٍّ، عن عبد الله بن شدَّادٍ، عن ابن عبَّاسٍ _☻_ ((جاء رجلٌ إلى رسول الله صلعم فقال: إنِّي أُحدِّثُ نفسي بالأمر لأنْ أكونَ حُمَمَةً أحبُّ إليَّ مِن أن أتكلَّمَ به فقال ◙: الحمدُ للهِ الذي ردَّهُ إلى الوَسْوَسة)).
          فإن قلت: كيف تُسمَّى هذِه / الخَطْرة الفاسدة مِن خَطَرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟
          قلت: قَال الخطَّابيُّ: يريد أنَّ صريح الإيمان هو الذي يعظِّمُ ما تجدونه في صدوركم ويَمنعُكم مِن قول ما يُلقيه الشَّيطان في قلوبكم، ولولاه لم يَتَعاظموه ولم يُنكروه، ولم يُرِد أنَّ الوسوسة نفسَها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهي مِن قِبَل الشَّيطان وكيده، أَلَا تراه أنَّه ◙ حين سُئل عن هذا قَال: ((الحمدُ لله الذي ردَّ كيدَهُ إلى الوَسْوَسة)).
          وفيه وجهٌ آخرُ: قَال المهلَّبُ: قوله: (صَرِيحُ الْإِيمَانِ) يعني به: الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له، فلا بدَّ عند ذلك مِن إيجاب خالقٍ لا خالقَ له؛ لأنَّ المفكِّر يجد المخلوقاتِ كلَّها لها خالقٌ يُؤثِر الصَّنعة فيها والحدَثَ الجاري عليها، والله تعالى بهذِه الصِّفة لمباينته صِفَات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكلِّ، فهذا صريح الإيمان لا البحث الذي هو مِن كيد الشَّيطان المؤدِّي إلى هذا الانقطاع؛ ليُحَيِّر العقول، فنبَّه ◙ على موضعِ كيدهِ وتحييرهِ.
          قال غيره: وإنْ وسوس الشَّيطان فقال: ما المانع أن يخلِقَ الخالقُ نفسَه، قيل له: هذِه وسوسة ينقُضُ بعضها بعضًا؛ لأنَّ بقولك يخلق فقد أوجبتَ وجوده، وبقولك: نفسَه قد أوجبت عدمَه، والجمع بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا تناقضٌ فاسِدٌ؛ لأنَّ من شرط الفاعل تقدَّم وجوده على وجود فِعْله، فيستحيل كون فِعْله فعلًا له؛ لاستحالة أن يُقال: إنَّ النَّفس تخلِقُ النَّفس التي هو هو، وهذا بيِّنٌ في كلِّ هذه الشُّبه وهو صريح الإيمان.
          فَائِدةٌ: ذكر القاضي في «طبقات المعتزلة»: أنَّ الرشيدَ لَمَّا منَعَ مِن الجدال في الدِّين كتب إليه ملك السِّنْد: إنَّكَ رئيسُ قومٍ لا تُنْصِفُون وتقلِّدُون الرِّجال وتُغَالبون بالسَّيف، فإن كنتَ على ثقةٍ مِن دِينكَ، فوجِّه إليَّ مَن أناظره، فإن كان الحقُّ معك تبِعتهُ، وإن كان معي تتَّبِعني، فوجَّه إليه الرشيد بعض القُضاة، وكان عند ملك السِّنْد رجلٌ مِن السُّمنيَّةِ، وهو الذي حملَهُ على هذا القول، فلمَّا وصل القاضي إلى الملكِ أكرمَهُ، ورفَعَ منزلته، فسأله السُّمنيُّ فقال: أخبرني عن معبودكَ، هل هو قادِرٌ؟ قَال: نعم، قَال: فهل يقدِرُ على أن يخلِقَ مِثْله؟ فقال القاضي: هذِه المسألة مِن الكلام، والكلام بِدْعةٌ وأصحابنا يكرهونَهُ، فقال السُّمنيُّ: ومَن أصحابكم؟ قَال: محمَّدُ بن الحَسَنِ وأبو يُوسُفَ وأبو حنيفةَ، فقال السُّمنيُّ للمَلِك: قد كنتُ أعلمتُكَ دِينهم، وأخبرتُكَ بجهلهم وتقليدهم وغَلَبَتِهم بالسَّيف، فأمر الملِكُ القاضي بالانصراف، وكتب إلى الخليفة: إنِّي كتبتُ إليك وأنا على غير يقينٍ فيما حُكي لي عنكم والآن فقد تيقَّنت بحضور هذا القاضي، وذكر له ما جرى.
          فلمَّا ورد الكِتاب على الرَّشيد قامت قيامته، وقال: ليس لهذا الدِّين مَن يُناضل عنه؟! فقالوا: بلى، وهم الذين في الحبس، فقال: أحضروهم، فلمَّا حضروا قَال لهم: ما تقولون في هذه المسألة، قَال صبيٌّ مِن بينهم: هذا السؤال مُحَالٌ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يكون إلَّا مُحدثًا والمحدَث لا يكون قبلَ القديم فاستحالَ أن يُقال: يقدِرُ يخلِقُ مثلَهُ أو لا يقدِرُ، كما استحال أن يُقال: تقدِرُ أن تكون جاهلًا أو عاجزًا، فقال الرَّشيد: وجِّهوا بهذا الصَّبيِّ إلى السِّنْد يُنَاظِرهم، وذكر الخبر.
          فصل: إن سأل سائلٌ عن حَديث سعْدٍ وزيْدِ بن ثابتٍ فقال: فيهما دلالةٌ على أنَّ الله يَفعل شيئًا مِن أجل شيءٍ وبسببه، وهذا يؤدِّي إلى قول القَدَريَّةِ.
          فالجواب: أنَّه قد ثبتَ أنَّ الله تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وأنَّه لا يكون مِن أفعاله التي انفرد بالقُدرة عليها، ولا تدخل تحت قَدَر العباد ولا تكون مِن مقدورات العباد التي هي كَسْبٌ لهم وخَلْقُ الله تعالى إلَّا والله تعالى مريدٌ لجميع ذلك سواءٌ كان آمرًا بذلك عباده أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائزٍ أن يُقال: فَعَل فعلًا مِن أفعاله، والقول إنَّه فاعلٌ بسببٍ مِن الأسباب أو مِن أجل داعٍ يدعوه إلى فِعْله؛ لأنَّ السبب والدَّاعي فعْلٌ مِن أفعاله، والقول إنَّه فاعلٌ بسببٍ يُفضي إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصحُّ وقوعه مِن فِعْله إلَّا بوقوع غيره_تعالى الله عن ذلك_ وإذا فَسَدَ هذا وجبَ حَمْل قوله ◙: (إِنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِيْنَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيِءٍ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) على غير ظاهره، وصَرَفَهُ إلى أنَّه تعالى فاعلُ سؤال السائل الذي نهاه عنه ومقدِّرٌ أن يحرِّم الشيء الذي يَسأل عنه إذا وقعَ السؤال فيه كلُّ ذلك سبقَ به القضاء والقَدَر؛ لأنَّ السؤال موجِبٌ للتحريم وعلَّةٌ له.
          وكذلك قوله ◙: (مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ) يعني: مِن كثرة مطالبتكم لي بالخروج إلى الصَّلاة حتَّى خَشِيت أن تُكتب عليكم عِقَابًا لكم على كثرة ملازمتكم لي في مداومة الصَّلاة بكم، لا أنَّ ملازمتهم له موجبةٌ لكتابة الله عليهم الصَّلاة لِمَا ذكرنا مِن أنَّ الملازمة والكتب فِعْلان لله تعالى غير جائزٍ وقوع أحدهما شرطًا في وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمةُ ووقع كِتَابة الصَّلاة عليهم لكان ذلك ممَّا سبقَ به القضاء والقَدَر في عِلم الله تعالى، وإنَّما نهاهم ◙ عن مِثل هذا وشبَّهه تنبيهًا لهم على ترك الغلُوِّ في العبادة وركوب القَصْد فيها؛ خشيةَ الانقطاع والعَجْز عن الإتيان بما طلبوه مِن الشدَّة في ذلك، أَلَا ترى قوله تعالى فيمن فعل ذلك: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:102] يعني: فُرضت عليهم، فَعَجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين، وكان ◙ رؤوفًا بالمؤمنين رفيقًا بهم.
          وقد تقدَّم مثل حَديث زيد بن ثابتٍ ☺ مِن رواية عائِشَةَ في أبواب قيام اللَّيل في كتاب الصَّلاة، وأسلفنا في توجيهه ما لم يُذكر هنا، فراجعه [خ¦1129].
          فإن قلت: فإذا حُمل قوله ◙: (إِنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِيْنَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيِءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِه) على غير ظاهرهِ، فما وجه ذلك وإثمُ الجُرم به؟
          قيل: هو على ما تقرَّر عِلمُهُ مِن نسبة اللوم والمكروه إلى مَن تعلَّق بسببِ فِعْلِ ما يُلام عليه، وإن قلَّ، تحذيرًا مِن مواقعته له فعَظُم جُرم فاعل ذلك؛ لكثرة الكارهين لفعلِهِ.
          فَصْلٌ: قوله في حَديث أنسٍ ☺ / آنفًا أي: السَّاعة (فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ) وعُرض الحائط وسطَهُ، وكذا عُرض البحر وعُرض النَّهر وسطهما، واعترضتُ عُرضه نحوتُ نحوه عن صاحب «العين»، وقال صاحب «العين»: هو بضمِّ العين أي: في ناحيتهِ.
          وقوله: (إِنَّ أَعظَمَ المُسْلِمِيْنَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيِءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) فيه: أنَّ الأشياء على الإباحة حتَّى تُحرَّم، والقول بالوقْفِ تعدٍّ لِمَا فيه مِن الإضرار، وهو المنع مِن التصرُّفِ فيها بالأكل وغيره.
          فَصْل: والحُجْرة في حَديث زيدٍ: المكان يمتنع فيه.
          وقوله: (فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ) صريحٌ في فضْلِ النافلة في البيوت، يؤيِّدُهُ الحديث الآخر: ((اجعلوا مِن صلاتكم في بيوتكم ولا تتَّخِذُوها قبورًا)) وشذَّ بعضهم، فقال: يحتملُ مَن فرضه في بيته عملًا بهذا الحديث، وجعله ناسخًا للأوَّل ولا نسخَ.
          فصل: والجَدُّ في حَديث المغيرة _بفتح الجيم_ أي: الغنى، ويُقال: الحظُّ والبَخْت، وقال الدَّاودِيُّ: هو الشَّرف، وقال ابن حبيبٍ: هو بالكسر وهو مِن جدِّ الاجتهاد، وأنكره مَن قَال: الجدُّ الاجتهاد في الله، والله دعا الخَلْق إلى طاعته وأمرهم بالاجتهاد لأداء فرائضه. فكيف لا ينفَعُ ذلك عنده!
          وقيل: يريد المجتهد في طلب الدُّنيا لا ينفعُهُ ذلك عنده، وقيل: يريد لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده في الهرب ولا في الطَّلب ما لم يُقسَم له.
          وقيل: معنى الفتح وغيره: لم يكن عليه جُرمٌ، فيدَلُّ أنَّ استعمالها كان شائعًا قبل ذلك أنَّ مَن آتاه الله مُلكًا أو شيئًا فأعظَمَ به شأنَهُ لم يكن نال شيئًا فيه إلَّا بعطاء الله إيَّاه.
          وقوله: (مِنْكَ الجَدُّ)، قَال الخطَّابيُّ: (من) هنا بمعنى البدل كقوله:
فليتَ لَنَا مِن مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً                     مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلى الطَّهَيَانِ
          يريد: ليت لنا بدل ماء زَمْزَمَ، والطَّهَيَان: البَرَّادة.
          قال الجَوْهَرِيُّ: معنى (مِنْكَ) هاهنا: عندك، تقديره: ولا ينفع ذا الغِنى عندك غِنًى وإنَّما ينفعهم العمل بطاعتكَ.
          والصَّحيح بقاء (من) على بابها، والمعنى: ولا ينفع ذا الغنى غِنَاه إن أنت أردتَهُ بسوءٍ أو أمرٍ كما تقول: لا ينفعك منِّي شيءٌ، ولا يُغنيك منِّي إن أنا أريد أخذًا. قَال أبو عبد الملك: وقد بناه العراقيون في شرح ذلك فزعموا أنَّه بفتح الجيم، فذهب به بعضهم إلى أنَّ ذا البحث لا ينفعه جدُّه ولا حظُّه مِن الله شيئًا، قال: وبعضهم ذهب إلى أنَّ جدَّ الرِّزق والغنى لا ينفع مِن الله شيئًا فَخَبَطوا فيه العَشَوَاء.
          فَصْلٌ: ذكر هنا: أنَّ المغيرةَ كتب به إلى مُعَاويةَ، وفي «الموطَّأ» عن مُعَاويةَ قَال: سمعتُ هذِه الكلمات مِن رسول الله صلعم على هذِه الأعواد وكان مُعَاويةُ حينئذٍ خطب على مِنْبَر رسول الله صلعم، فيحتمل أن يكون مُعَاويةُ سَمِع ذلك من رسول الله صلعم وكتبَ به المغيرة إليه، وفيه مِن الطُّرف روايةُ صحابيٍّ عن صحابيٍّ.
          فَصْلٌ: قد سلف الكلام في (قِيلَ وَقَالَ) وإعرابه أيضًا [خ¦1477]، والمعنى: أنَّها نهيٌ عن كثرة الكلام والغالب عدم السَّلامة مِن المكثِرِ لكلامه فيما لا يَعنيه أو لأنَّه يُخالطه الكَذِب.
          فَصْلٌ: وسلف هناك أيضًا نهيُهُ عن إضاعة المال أنَّها على وجوهٍ: وضعُهُ في غير حقِّه، ونفقته في المعاصي، والسَّرف في الحلال، والتَّفريط فيه حتَّى يَضِيع.
          وقوله: (وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ) أي: يخالف مُرادهنَّ وسكت عن الآباء؛ لأنَّ معناهم بمعنى الأُمَّهات، وأصلُ أمٍّ أُمَّهَةٌ ويدلُّ عليه أنَّ جمعَهُ أُمَّهاتٌ، وقيل: أُمَّهاتٌ للنَّاسِ وأُمَّاتٌ للبهائِمِ.
          فَصْلٌ: (وَوَأْدِ البَنَاتِ): دفنهنَّ أحياءَ في التراب خشيةَ الفقرِ. (وَمَنْعٍ وَهَاتِ) أي: منعَ الحقِّ وطلبَ الباطلِ.
          وقوله: (أَوَلى) سلف أنَّه تهديدٌ وهو بفتح الواو، وفي الأصل: (أَوْلى) بسكون الواو.
          فَصْلٌ: ينعطِفُ على ما مضى مِن قوله: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ...) إلى آخره وهو غير لازمٍ، وذلك أنَّ العَاَلم إذا ثبتَ حدَثه افتقَرَ إلى محدِثٍ؛ لاتِّفاق العقل على أنَّ الكتابة لا بدَّ لها مِن كاتبٍ، والبناء مِن بانٍ فإذا اتَّفَقُوا على افتقار الأدون إلى صانعٍ، فالذي هو أعجبُ وأبدعُ مِن خَلْق السَّماوات والأرض والجبال وخَلْق الإنسان واختلاف اللَّيل والنهار، وما سوى ذلك مِن عجيب الآيات أَوْلى أن يَفتقر إلى صانعٍ، ويدلُّ أيضًا على إثبات الصَّانع أنَّ شأن الحوادث تقدُّم بعضها على بعضٍ في الوجود وصحَّة تقدُّم المتأخِّر منها فحصولُها على ما حَصَلت عليه مِن التَّقدُّم والتَّأخُّر واختلاف الأشكال والهَيَّئات تدلُّ على أنَّ ذلك فعْلُ عالِمٍ مريدٍ مختارٍ، فإذا ثبتَ ذلك فلا يخلو أن يكون الفاعل محدَثًا أو قديمًا، فإن كان مُحدَثًا نقلنا الكلام كما قلنا في المخلوقات، وكذلك في مُحدَثه ويَتسلسلُ القول في ذلك وما أدَّى إلى التسلسل فهو غير صحيحٍ فلم يكن إلَّا أن يكون قديمًا، وإذا كان قديمًا فلا يُقال: مَن خَلَقَه؟ لأنَّ القديمَ لا يتقدَّمُهُ شيءٌ ولا يصحُّ عدمُهُ وهو فاعِلٌ لا مفعولٌ.
          فَصْلٌ: وقوله: (كُنْتُ مَعَ رسول الله صلعم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ) أي: زرعٍ، والعَسِيب: قَال ابن فارسٍ: عِسْبان النَّخل كالقُضبان، والنَّفر: قَال ابن عَرَفَة: هو ما بين العشرة إلى الثلاثة، وفي «الصِّحاح»، و«المجمل»: النَّفر مِن الثلاثة إلى العشرة.
          وقد سلف الكلام على الرُّوح [خ¦125]، قَال ابن عبَّاسٍ: ملَكٌ له أحدَ عشرَ ألف جناحٍ وألفُ وجهٍ يُسبِّح الله إلى أن تقوم الساعة، وقال أبو صالحٍ: هو خَلْقٌ كخلق بني آدَمَ، وليسوا ببني آدَمَ لهم أيدٍ وأرجُلٌ، وقيل: هو جِبْريلُ، واحتجَّ قائله بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193] وقيل: عيسى ◙ وقيل: القرآن؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].
          وقال المفسِّرون: هو مَلَكٌ عظيمٌ / يقوم وحدَه فيكون صفًّا وتقومُ الملائكة فيكونون صفًّا، كما قَال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ}الآية [النبأ:38]، وقيل: هو مَلَكٌ عظيمٌ رِجْلاهُ في الأرض السُّفلى ورأسه عند العرش، وقيل: هو خَلْقٌ مِن خَلْقِ الله لا ينزل ملَكٌ إلَّا ومعه اثنان منهم. وذكر الدَّاودِيُّ: أنَّ الرُّوح الوحي.
          وقوله: (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعُْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ): هو بإسكان العين مضمومًا وقيل: مجزومًا جواب النَّهي.