التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأحكام التي تعرف بالدلائل

          ░24▒ باب الأحْكَامِ التِي تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ، ومَا مَعْنَى الدَّلالَةِ وَتَفْسِيْرُهَا؟
          وَقَد أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلعم أَمْرَ الخَيْلِ وَغَيْرِهَا ثمَّ سُئِلَ عَنِ الحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى قَولِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7]، وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: (لا آَكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ). وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلعم الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابن عبَّاسٍ ☻ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
          7356- ثُمَّ ساقَ فِيْهِ حَديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (الخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ...) الحَدِيْث بطوله سلف.
          7357- وَحَدِيْث عَائِشَة ♦ فِي الفِرْصَة.
          7358- وَحَدِيْث ابنِ عبَّاسٍ ☻ فِي الضَّبِّ.
          7359- وَحَدِيْث جابرٍ ☺: (مَنْ أَكَلَ ثُوْمًا...). الحَدِيْث، وفِيْهِ: (وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ)، عَنِ ابن وَهْبٍ: بِقِدْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ القِدْرِ، فَلا أدْرِي هُوَ مِنْ قَولِ الزُّهَرِيِّ أَوْ فِي الحَدِيْث.
          7360- وَحَدِيْث جُبَيرِ بن مُطَعِمٍ ☺: (فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ). زَادَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: (كَأَنَّهَا تَعْنِي المَوتَ). وقد سلف كلُّ ذَلِكَ.
          الشَّرْح: (الدَّلَالة) بفتح الدَّال وكسرها، وفي لغةٍ ثالثةٍ: دُلُولة، قَالَ: أبُو عُمَر الزَّاهد: دلالةٌ بين الدَّلائل. وفي سند عَائِشَة ♦ منصورُ بن عبد الرَّحمن بن شَيْبةَ، وَهْوَ نسبةٌ إِلَى جدِّه لأمِّه صفيَّة بنت شَيْبةَ بن عُثْمانَ بن أبي طَلْحةَ عَبْد اللهِ بن عبد العزَّى بن عُثْمانَ أخي عبد مَنَاة، جدُّ مُصْعَبِ الخيرِ بن عُمَر بن هاشِمِ بن عبد مَنَافٍ ابني عبد الدَّار بن قُصَيٍّ، ومنصورُ / بن عبد الرَّحمن بن طَلْحَة بن الحارثِ بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة الحَجَبيُّ المكِّيُّ. قُتل جدَّاه الحارثُ وطَلْحَةُ كافرَين يوم أُحدٍ وقُتل معهما يومئذٍ شافعٌ والجُلَاس وكِلَابٌ بنو طَلْحَة وعمُّهم أيضًا أبُو شَيْبةَ يُعرف بالأَوْقَصِ. وهم أهل اللِّواء.
          وكان كلَّما حملَهُ منهم إنسانٌ قُتل، فقال فيهم كعْبُ بن مالكٍ يخاطبُ أهل مكَّةَ:
أَبْلِغْ قُرَيشًا وخيرُ القَوْلِ أَصْدَقُهُ                     والصِّدْقٌ عِنْدَ ذَوِي الأَلْبَابِ مَقْبُولُ
أَنْ قَدْ قَتلنا بِقَتْلَانا سَرَاتَكُمُ                     أَهْلَ اللِّوَاءِ فَفِيمَا يَكْثُرُ القِيلُ
          وكان بنو أبي طَلْحَة مِن أشراف مكَّةَ وإليهم كان اللِّوَاء والحِجَابة؛ أي: حِجَابَةُ البيت.
          وَ(أبُو صَفْوَانَ): اسمه عَبْدُ اللهِ بن سَعِيْد بْن عبد الملك بن مَرْوانَ.
          وَحَدِيْث جبيرٍ أخرجه عن عُبَيد اللهِ بن سَعْدِ بن إبراهيم: حدَّثنا أبي وعَمِّي قالا: حدَّثنا أبي، عن أبيه، عن محمَّدِ بن جُبَيرٍ، عن أبيه. وعُبَيد الله هَذَا هُوَ أبُو الفَضْل عُبَيدُ الله بن سعْدِ بن إبراهيمَ بن سعْدِ بن إبراهيمَ بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ، مات ببغداد سنةَ ستِّين ومائتين، مِن أفراده. وعمُّه يَعْقُوبُ بن إبراهيمَ أبُو يُوسُف، مات بفم الصِّلْح قريةٌ عَلَى دِجْلَة واسِطٍ فِي شوَّال سنةَ ثمانٍ ومائتين، وَهْوَ أصغَرُ مِن أخيه سعْدِ بن إبراهيمَ، انفرد به البُخَارِيُّ مقرونًا، واتَّفقا عَلَى أخيه، وسعْدٌ قضى بوَاسِطٍ.
          فَصْلٌ: وَهَذَا كلُّهُ بيِّنٌ فِي جواز القِيَاس والاستدلال، وموضع الاستِدلال عَلَى أَنَّ فِي الحُمُر أجرًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:8].
          فحمل ◙ الآَيَة عَلَى عمومها استدلالًا بها، وأمَّا استدلال ابن عبَّاسٍ ☻ بأنَّ الضَّبَّ حلالٌ بأكلِهِ عَلَى مائدته ◙ بحضرتِهِ ولم يُنكره ولا منعَ مِنْهُ بقوله: (وَلاَ أُحَرِّمُهُ). فيحتمل أَنْ يكون استدلالًا أيضًا لاحتمال قوله: (وَلاَ أُحَرِّمُهُ) النَّدْب إِلَى ترك أكلهِ فلمَّا أُكل بحضرته استدلَّ ابن عبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أنَّه لَمْ يحرِّمْه ولا ندَبَ إِلَى تركه فيكون نصًّا فِي تحليله.
          وأمَّا حَديث الحائض فهو استدلالٌ صحيحٌ؛ لأنَّ السائلةَ لَمْ تَفهم غرضه حين أعرَضَ عن ذِكْرَ موضع الأذى والدَّم، ولم تدرِ أنَّ التتبُّعَ لأثر الدَّم بالخِرْقة يُسمَّى وضوءًا، فَفَهِمت ذَلِكَ عَائِشَة ♦ مِن إعراضِهِ، فهو استدلالٌ صحيحٌ.
          وأمَّا حَديثُ جابرٍ ☺ فِي الثُّوم والبَصَل فهو نصٌّ مِنْهُ عَلَى جواز أكلهما بقوله: ((كُلْ فإنِّي أُنَاجي مَن لا تُنَاجي)).
          وأمَّا حَديث المرأة فهو استدلالٌ صحيحٌ، استدلَّ الشارع بظاهر قولها: (فَإِنْ لَمْ أَجِدْكَ) أنَّها أرادت الموت فأمرها بإتيان الصِّدِّيق.
          فإن قلت: فليس فِي ظاهر قولها دلالةٌ عَلَى الموت، قيل له: قد يمكن أنَّه اقترن بسؤالها (إِنْ لَمْ أَجِدْكَ) حالةٌ مِن الأحوال، وإنْ لَمْ يمكن نقلُها دلَّته عَلَى مرادها فوكَلَها إِلَى الصِّدِّيق، وفي هَذَا دليلٌ عَلَى استخلافه، وقد أمر الله عباده بالاستدلال والاستنباط مِن نُصُوص الكتاب والسُّنَّة، وفرضَ ذَلِكَ عَلَى العلماء القائمين به.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ فِي حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺: (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا). قَالَ الأخفشُ: الطِّوَل والطِّيَل سواءٌ، منتهى أَمَدِ رَسَن الدَّابَّةِ وَهْوَ الحبل الَّذِي تطولُ به الدَّابة فترعى فِيْهِ، وقال ابن السِّكِّيت: لا يُقَالُ إلَّا بالواو. و(المَرْجِ): الموضِعُ الَّذِي تَرْعى فِيْهِ الدَّوابُّ، وقال ابن مُزَينٍ: المَرْجُ المُهْمَلُ فِي السَّرْح المُخَلَّا فِيْهِ، والرَّوضةُ ما فِي طيلة ذَلِكَ.
          ومعنى استنَّت: أَفْلَتَت فَمَرِحت تَجْري، (شَرَفًا أَوْ شَرَفَين)، وفي «الصِّحاح»: استنَّ الفَرَسَ قَمَصَ، وقيل: جري، وقال أبُو عُبَيدٍ: هُوَ أَنْ يَجري وليس عليه فارِسٌ، والشَّرَف ما يَعْلُو مِن الأرض، وقيل: هُوَ الطَّلَق فكأنَّه يقول: جَرَت طَلَقًا أَوْ طَلَقَين.
          وَقَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا) قَالَ ابن قانِعٍ: أَيْ يَستغني بها عمَّا فِي أيدي النَّاس ويتعفَّفُ عن الافتقار إليهم بما يَعمل عليها ويكسبه عَلَى ظَهْرها.
          وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا) يعني: لا ينسى التصدُّق ببعض كسبهِ عليها لله تَعَالَى، وقال عيسى: الرِّقاب الحُمْلان، والظُّهُور ينزيها بلا أجرةٍ، واعتمد عَلَى هَذَا أصحاب أبي حنيفةَ فِي إيجاب الزكاة فِي الخيل، وقالوا: تجِبُ فِي إناثها فِي كلِّ واحدةٍ دِينارٌ، وإن سافرَ بها أخرج رُبْع عُشْر قيمتِها ولا يُعتبر النِّصاب فيها، وتأوَّل أصحاب مالكٍ الحَدِيْث عَلَى ما سلف، وحُجَّة الجمهور الحَدِيْث السالف فِي موضعِهِ: ((ليس عَلَى المسلم فِي عبدهِ ولا فرسِهِ صدقةٌ)). واسم الفرس يقعُ عَلَى الذَّكَر وَالأنثى.
          وَقَوْلُهُ: (مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيْهَا إلَّا هَذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةَ الجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:8]) إِلَى آخره، أَيْ: مَن أحسَنَ إليها رأى إحسانَهُ فِي الآخرة، ومَن أساءَ إليها وكلَّفها فوق طاقتِها رأى إساءته فِي الآخرة، والله تعالى يغفِرُ لمن يشاء ويعذِّب مَن يشاء.
          ومعنى جامعةً: جَمَعَت أعمال البرِّ كلِّها دقيقِها وجليلِها، وكذلك أعمال المعاصي.
          ومعنى: فاذَّةً: مُفْرَدةً فِي معناها، قال ابن المنذر: وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ ما لم يُذكر فِيْهِ إيجاب الزَّكاة فهو عفوٌ عنه كعفوه عن صَدَقةِ الخيل والرَّقِيق.
          وليس يعني أنَّه يرى عينَ عَمَلِه فِي قَوْلُهُ: ({يَرَهُ}) وإنَّما يرى جزاءه؛ كقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} [البقرة:197] أي: يُجَازي عليه.
          قوله فِي حَديث عَائِشَة ♦: (تَأْخُذِينَ فِرْصَةً) كذا فِي الأصول: (تَأْخُذِينَ) وذكره ابن التِّين بلفظ: <تَأْخُذي> ثُمَّ قَالَ: صوابه: (تَأخُذِينَ)، والفِرْصَة _مثلَّثة الفاء كما سلف فِي الطَّهارة_ [خ¦308] القِطْعَة مِن القُطن أو الخِرَق تمسَحُ بها المرأة مِن الحيض.
          قال ابن فارسٍ: وتكون مِن الصُّوف، وإنَّما أُخذت مِن فَرَصْتُ الشيءَ قَطَعْتُهُ، وقاله الهَرَويُّ، وأنكر ابن قُتَيبةَ أَنْ تكون بالصَّاد وإنَّما هي بالقاف والضاد المعجمة، وأنكر ذَلِكَ أيضًا، وقال هنا إنَّه الطَّيِّب، وقال: لَمْ يكن للقوم وُسْعٌ فِي المال يَستعملون الطِّيب فِي الحال مثل هَذَا، وَهَذَا إِنَّمَا معناه الإمساك، فإن قالوا: إِنَّمَا سُمع رباعيًّا، والمصدر مِنْهُ إمساكًا، قيل: وسُمع أيضًا ثلاثيًّا ويكون مصدرُهُ مَسْكًا.
          قوله: (تَوَضَّئِينَ بِهَا) أَيْ: تُنَظِّفِين وتتَّبِعين أثَرَ الدَّم.
          فَصْلٌ: / قَوْلُهُ: (أَهْدَتْ سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا) هُوَ غير ممدودٍ؛ لأنَّ أصله أضْبُبًا عَلَى وزن أَفْلُس اجتمع مِثْلان متحرِّكان، فأُسكن الأوَّل ونُقلت حركتُهُ إِلَى السَّاكن الَّذِي قبلَه، والحديث دالٌّ عَلَى جواز أكلِهِ، وبه قال مالكٌ والشَّافعِيُّ.
          وقال أبُو حنيفةَ: إنَّه مكروهٌ، وحكى ابن جَرِيرٍ عن قومٍ: أنَّه حَرَامٌ، واحتجُّوا بأنَّه ◙ قَالَ: ((إنَّ أُمَّةً مِن بني إسرائيلَ مُسِخت قِرَدةً، وإنِّي أخشى أَنْ تكون هَذِه الضِّباب)). فأمَرَ بإكفاء القُدُور وهي فيها، قال الراوي: فأَكْفَأْنَاهَا وإنَّنا لَجِيَاعٌ.
          فَصْلٌ: الثُّوم فِي حَديث جابرٍ ☺ _بضمِّ الثاء_ معروفٌ، وكذا البَصَلُ وَهْوَ محرَّك الصاد، وتشبَّهُ به بَيْضَة الحَدِيد، قال لَبِيدٌ:
قُردُمَانيًّا وتَرْكًا كالبَصَلْ
          ويُمنع مَنْ أكْلِ الثُّوم والبَصَل مِنْ دخول المسجد، وكذا ما فِي معناها مِن الكُرَّاث والفُجْل، وقد ورد فِي الفُجْل حَدِيْثٌ، وعلَّل ذَلِكَ بأنَّ الملائكة تتأذَّى ممَّا يتأذَّى مِنْهُ بنو آدمَ. قيل: يريدُ غير الحافظِين.
          وَقَوْلُهُ: (فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي) يريد الملَك، وظاهر هذا الحديث ثبوت الكراهة مع الطبخ، وفي الحَدِيْث الآخر إجازةُ أكلِها مطبوخةً، وكلُّ ذَلِكَ سلف [خ¦855] لكنَّا نبَّهنا عليه لبِعُدِهِ.
          وقال ابن وَهْبٍ: البَدْرُ الطبقُ سُمِّي لاستدارته ويحتمِلُ لامتلائه بالخَضِرات؛ لأنَّ كلَّ ممتلئٍ بَدْرٌ والخَضِرات بفتح أوَّله وكسر ثانيه، قال ابن التِّين: وضُبط فِي بعض الروايات بفتح الضَّاد وضمِّ الخاء.