التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قوله تعالى: {وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلًا}

          ░18▒ باب قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]
          7347- ذَكَرَ فِيْهِ حَديث محمَّدِ بن سَلَامٍ _بالتخفيف_ أَخْبَرَنا عَتَّابُ بْنُ بَشِيْرٍ _وَهْوَ: أبُو الحسَنِ الحرَّانيُّ، مولى بني أُميَّةَ_عَنْ إِسْحَاقَ _وَهْوَ ابن راشدٍ أخو النُّعمان بن راشدٍ الجَزَريِّ الحَرَانيِّ، مولى بني أُمَيَّة، انفرد به وبالَّذِي قبلَه_ عن الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، عن حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالب أَخْبَرَه (أَنَّ رَسُوْل اللهِ صلعم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُوْلِ اللهِ صلعم فقالَ لهم: ألا تُصَلُّون؟! فَقَالَ عَلِيٌّ: فقلت: يَا رَسُوْل اللهِ، إنَّما أنْفسنا بِيد اللهِ فإِذَا شَاء أَنْ يبعَثَنا بعَثَنا، فانصرف رَسُوْل اللهِ صلعم حِيْنَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، ثمَّ سَمِعَهُ وَهْوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}) [الكهف:54].
          قَالَ أبُو عَبْدُ اللهِ: مَا أتَاكَ لَيْلًا فَهْوَ طَارِقٌ. وَيُقَالُ: الطَّارِقُ النَّجْمُ، وَالثَّاقِبُ: المُضِيءُ، يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمَوْقِدِ.
          7348- وَحَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: قَالَ: (بَيْنَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجَنَا مَعَهُ حتَّى أتينا بَيْتَ المِدْرَاسِ) الحَدِيْث بطوله.
          الشَّرْح: معنى (طَرَقَه): جاءه ليْلًا، قَالَ ابن فارسٍ: وَحكى بعضهم أَنْ ذَلِكَ قد يُقال فِي النَّهار أيضًا، وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا) هو بفتح الياء؛ لأنَّه ثلاثيٌّ فِي المشتهر مِن اللُّغات.
          وَقراءته ◙: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}) إِنَّمَا كره مِن احتجاجه؛ لأنَّ المسلمَ يَنبغي له أَنْ يعترف بالتقصير / لأنَّ له فِي فِعله اكْتسابًا عليْهِ يُجزى.
          وقَوْلُهُ: (فقال ◙ لِلْيَهُودِ: ذَلِكَ أُرِيدُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) كذا فِي الأصول (أُرِيدُ) بالراء، ووقع فِي كتاب أبي الحَسَنِ بالزاي والَّذي أعرفه بالراء.
          ومعنى: (أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) أَيْ: فِي الدُّنيا مِن السِّيف وَفِي الآخرة مِن عذَابِ الله.
          وَقَوْلُهُ: (أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ) أَيْ: أَطْرُدَكم مِن تلك الأرض وَكَاَنَ خروجهم إِلَى الشَّام.
          قَالَ الجَوْهَرِيُّ: جَلَوْا عن أوطانهم وَجَلَوْتُهم أنا يتعدَّى ولا يتعدَّى، وأَجْلَوا عن البلد وأَجْلَيْتُهُم أنا كلاهما بالألف، وأَجْلَوا عن القتيل _لا غير_ انفرجوا، زاد فِي «الغريبين»: وجلَّا بالتشديد عن وطنِهِ.
          فَصْلٌ: الجِدَال لغةً: المُدَافعَة، فمنه مكروهٌ وَمِنْهُ حَسَنٌ، فما كَاَنَ مِنْهُ تثبيتًا للحقائق وتبيينًا للسُّنن والفرائض فهو الحسَنُ، وما كَاَنَ مِنْهُ عَلَى معنى الاعتذار والمدَافَعَاتِ للحقائق فهو المذموم.
          وأمَّا قَوْلُ عليٍّ ☺ فهو مِن باب المدافعة. واحتجَّ الشَّارع عليه بالآية.
          ووجه هَذِه الآَيَة فِي الاعتصام أنَّه ◙ عرضَ عَلَى عليٍّ وفاطمة ☻ الصَّلاة فاحتجَّ عليه عليٌّ بقوله: (إِنَّمَا أنفسنا بيد الله)، فلم يكن له أَنْ يَدفع ما دعاه الشارع إليه بقوله هذا، بل كان الواجب عليه قبول ما دعاه إليه، وَهَذَا هو نفس الاعتصام بسنَّته ◙ فلأجل تركهِ الاعتصام بقول ما دعاه إليه مِن الصلاة قَالَ: ◙: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]) ولا حُجَّة لأحدٍ فِي ترْكِ أمر الله وأمر رسولهِ بمثل ما احتجَّ به عليٌّ ☺.
          وموضع الترجمة مِن حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺: أنَّ اليهود لَمَّا بَلَّغهم النَّبِيُّ صلعم ما ألزمهم العملَ به وَالإيمان بموجبه قالوا له: (قد بلَّغت يا أبا القاسم). رادَّين لأمرهِ فِي عَرْضهِ عليهم الإيمان، فبالغَ فِي تبليغهم وقال: (ذَلِكَ أُرِيد) ومَن روى: <ذَلِكَ أزِيد> بمعنى: أزيد بذَلِكَ بيانًا بتكرير التبليغ، وهذه مجادلةٌ مِن رَسُوْل اللهِ صلعم لأهل الكِتاب بالَّتِي هي أحسنُ.
          وقد اختلف العلماء فِي تأويل هَذِه الآَيَة، فقالت طائفةٌ: هي مُجملَةٌ ويجوز مجادلةُ أهل الكتاب بالَّتِي هي أحسن عَلَى معنى الدُّعاء لهم إِلَى الله والتنبيه عَلَى حُججه وَآياته رجاء إجابتهم إِلَى الإيمان. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] معناه: إلَّا الَّذِيْنَ نَصَبوا للمؤمنين الحرب فجادِلُوهم بالسَّيف حتَّى يُسلموا أَوْ يُعطوا الجِزْية. هَذَا قول مُجَاهدٍ وسعيدِ بن جُبَيرٍ. وقال ابن زيْدٍ: معناه: لا تُجَادِلوا أهل الكتاب _يعني: إذَا أسلموا وأخبروكم بما فِي كُتبهم_ إلَّا بالَّتِي هي أحسن فِي المخاطبة، إلَّا الَّذِيْنَ ظلمُوا بإقامتهم عَلَى الكفر، فخاطِبُوهم بالسَّيف. وقالوا: هي مُحْكَمةٌ. وقال قَتَادَةُ: هي منسوخةٌ بآية القتال.