التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}

          ░17▒ باب قَوْلِ اللهِ ╡:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
          7346- ذكَرَ فِيْهِ حَديث ابن عُمَر ☻: (أنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم يَقُول فِي صلاة الفَجْرِ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فقَالَ: اللَّهُم ربَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، في الآخِرة، ثمَّ قَالَ: اللَّهُم العَنْ فُلانًا وَفُلانًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}) [آل عمران:128]
          الشرح: معنى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ليس لكَ مِن أمر خَلْقي شيءٌ، وإنَّما أمرهم والقضاء فيهم بيدي دون غيري، وأقضي الذي أشاء مِن التوبة عَلَى مَن كَفَرني وعَصَاني، أَوْ العذاب إمَّا في عاجل الدُّنيا بالقتل والنِّقَم، وإمَّا في الآجل بما أعددتُ لأهل الكفر بي.
          ففيه مِن الفقه: أنَّ الأمور المقدَّرَة لا تُغيَّر عمَّا أُحكمت عليه؛ لقوله تَعَالَى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد:39] فإنَّما هو في النَّسخ أن يَنسخ ممَّا أمرَ به ما يشاء {وَيُثْبِتُ}. أَيْ: ويبقي مِن أمرهِ ما يشاء، قاله ابن عبَّاسٍ وقَتَادَة وغيرهما. وقيل: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} ممَّا يكتبهُ الحَفَظة عَلَى العِباد ممَّا لم يكن خيرًا أَوْ شرًّا كلَّ يوم اثنين وخميسٍ، ويُثبت ما سوى ذَلِكَ، عَن ابن عبَّاسٍ أيضًا.
          وقيل: ({يَمْحُو}) أَيْ: مَن أتى أجلُهُ مُحي ومَن لم يمضِ أجلُهُ أثبتَهُ، عن الحَسَنِ. ({وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}): يعني أصلُهُ وهو اللَّوح المحفوظ. ولا شكَّ أنَّ الدُّعاء جائزٌ مِن جميع الأمم، لكن ما خَتَم الله به مِن الأقدار عَلَى ضَرْبين: مِنْهُ ما قدَّر وقضى إذَا دعا وتضرَّع إليه صرفَ عنهُ البلاء.
          وَمِنْهُ ما حَكَم الله بإبقائه وَهْوَ عَلَى ما في هذا الحَدِيْث.
          وقال لنبيِّه صلعم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] في الدِّعاء عَلَى هؤلاء؛ لأنَّ منهم مَن قضيت له بالتوبة، ومنهم بالعذاب فلا بدَّ منه، لكن لانفراد الله بالمشيئة وتعذُّر عِلْم ذَلِكَ عَلَى العقول جاز الدُّعاء لله إذ الدَّعوة مِن أوصاف العبوديَّة فعلى العبد التزامُها، ومِن صِفة العبوديَّةِ الضَّراعة والمَسْكَنة، ومِن صِفات الملِك الرأفة والرَّحمة، أَلَا ترى قَوْلُهُ ◙: ((لا يقولنَّ أحدكم اللَّهُمَ إنْ شئتَ فَأَعْطِني ولَيَعْزِم المسألة فإنَّه لا مُكْرِهَ له)) إذَا كَاَنَ السائل إنَّما يسأل الله من حيث له أن يَفعل لا مِن حيث له أَنْ يترك الفعل.
          وَهَذَا الباب وإنْ كَاَنَ متعلِّقًا بالقَدَر فله مَدْخلٌ فِي كتاب الاعتصام؛ لدَعائِه ◙ لهم، أَيْ: الإيمان الَّذِي هو الاعتصام به يمنع القتْلِ وحقْن الدَّم.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَ ربَّنا ولَكَ الحمدُ فِي الآخِرَةِ). يريد: فِي الركعة الأخيرة، وقال مَالِكٌ: لا يقول الإمام: (ربَّنا ولَكَ الحمدُ)، وقال عيسى بن دِينارٍ وابن نافِعٍ بقوله، وفِي هَذَا الحَدِيْث زيادة: (اللَّهُمَ). ودليل مالكٍ قَوْلُهُ: فِي الحَدِيْث الآخر، ((وَإذَا قَالَ الإمام: سمع الله لِمَن حمدَه، فقُولوا: ربَّنا ولَكَ الحمدُ)) واعتذر الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لم يبلغ مالكًا هَذَا الحَدِيْث. وَهْوَ عجيبٌ؛ فقد أخرجه البُخَارِيُّ عن عَبْدُ اللهِ بن مَسْلَمَة عن مالكٍ، وَإنَّما تركه مالكٌ للخبر الآخر، ويمكن أَنْ يكون قوَّى أحدَهما بعمل أهل المَدِيْنَة، واختيار ابن القاسم أَنْ يقول المأموم: ربَّنا ولَكَ الحمدُ، واختار أشهبُ: لَكَ الحمدُ. واختلف قَوْلُ مالكٍ فِي ذَلِكَ.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ فِي الآَيَة أنَّها نَزَلَتْ لَمَّا دعا ◙ فِي الفجر: (اللَّهُمَ اِلعَن فُلانًا) وقيل: إنَّه ◙ استأذن أَنْ يدعو فِي استئصالهم فنزَلتْ. علم تَعَالَى أَنَّ منهم مَن سَيُسِلمُ وأكَّد ذلك بالآَيَة الَّتي بعْدها.
          وقالَ أنسٌ ☺: كُسرَت رَبَاعِيَتُهُ وأخَذَ الدَّم بيدِهِ وجعلَ يقُول: ((كيْف يُفلِح قوْمُ دَمَّوا وجه نبيَّهم)) فنزَلتْ، وانتصب {يَتُوبَ} بالعطف بأَوْ عَلَى {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}، والمعنى عَلَى هَذَا: ليقتل طائفةً أَوْ يُخزيَهم بالهزيمة أَوْ يتوبَ عليهم أَوْ يعذِّبهم، وقيل: فِي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ عَلَى هَذَا القول، وقيل: (أَوْ) هنا بمعنى: حتَّى، وصوِّبَ الأوَّلُ لأنَّه لا أمرَ إِلَى أحدٍ مِن الخَلْق.