التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذكر النبي وحض على اتفاق أهل العلم

          ░16▒ باب مَا ذَكَر النَّبِيُّ صلعم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ العِلْمِ.
          وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالمَدِيْنَةُ، وَمَا كَاَنَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلعم وَالمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلعم وَالمِنْبَرِ وَالقَبْرِ.
          ذكر فيه أحاديث فوق العشرين:
          7322- أحدها: حديث جابرِ بن عبدِ اللهِ السَّلَميِّ ☻: أَنَّ أَعْرَبِيًّا بَايَعَ النَّبِيَّ صلعم. الحديث. فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. إلى أن قَالَ: (إِنَّمَا المَدِيْنَةُ كَالكَيْرِ، تَنْفِي خبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيْبُهَا).
          7323- ثانيها: حديث ابن عبَّاسٍ ☻: (كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَاَنَ في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ ☺ قَالَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ☺: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيْرَ المُؤمِنِيْنَ، أَتَاهُ رَجُلٌ...) الحديث إلى أن قَالَ: (فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ المَدِينَةَ دَاَرَ الهِجْرَةِ).
          قوله فِيْهِ: (رَعَاعَ النَّاسِ) أي: غَوغَاؤهم وسقَّاطُهم وأخلاطهم، الواحد رَعَاعة، وسائرُ النَّاس هَمَجٌ ورَعَاعٌ، ورد في حَديث عليٍّ ☺.
          7324- ثالثها: حديث حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كِتَّانٍ، فَتَمَخَّطَ فَقَالَ: بَخْ بَخْ، أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الكِتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإَنِّي لأَخِرُّ فِيْمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم إلى حُجْرَةِ عَائِشَةَ ♦ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيَرى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إلَّا الجُوعُ).
          المِشق: بكسر الميم: المَغْرَةُ؛ وثوبٌ مُمَشَّقٌ مَصْبوغٌ به.
          7325- رابعها: حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: سُئِلَ ابن عبَّاسٍ _☻_: (أَشَهِدْتَ العِيْدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلا مكاني مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنَ الصِّغَرِ، فَأَتى العَلَمَ الذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثمَّ خَطَبَ). الحديث.
          7326- خامسها: حديث ابن عُمَرَ ☻ (أنَّه ◙ كَاَنَ يَأْتِي قُبَاءً مَاشِيًا وَرَاكِبًا).
          7327- 7328- سادسها: حديث عائِشَةَ ♦ قَالتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: (اِدفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي وَلا تَدفِنِّي مَعَ النَّبِيُّ صلعم فِي البَيتِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى).
          وعن هِشَامٍ، عن أبيه أنَّ عُمَر ☺ أَرْسَلَ إلى عائِشَة ♦: (ائْذَنِي لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، فَقَالَتْ: إِِي وَاللهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: «لاَ وَاللهِ» لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا).
          7329- سابعها: حديث أنسٍ ☺: (أنَّه صلعم كَاَنَ يُصِّلي العَصْرَ فَيَأتِي العَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. زَاَدَ اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ: وَبُعْدُ العَوَالِي أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ).
          وفي إسنادِهِ أبو بكْرِ بن أبي أُوَيسٍ، واسمه عبد الحَمِيد بن عبد الله الأعشى أخو إسماعيلَ.
          7330- ثامنها: حديث القاسِمِ بن مالكٍ، عَنِ الجُعَيْدِ، سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيْدَ يَقُولُ: (كَاَنَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلعم مُدًّا وَثُلُثًا بِمَدِّكُم اليَومَ، وَقَد زِيْدَ فِيْهِ) سَمِع القاسمُ بن مالكٍ الجُعَيد.
          7331- تاسعها: حديث أَنَسٍ ☺: (اللهُمَّ بَارِك لهُم فِي / مِكْيَالِهِمْ...) الحديثَ. يعْني: أَهْلَ المَدِينةِ.
          7332- عاشرها: حَدِيْثُ ابن عُمَرَ ☻: (أَنَّ اليَهود جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيْبًا مِنْ حَيْثُ مَوضَعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ).
          7333- الحَادي عشر: حَدِيْثُ أَنَسٍ ☺ أنَّه ◙ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: (هذا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا).
          تَابَعَهُ سَهْلٌ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِي أُحُدٍ.
          7334- الثاني عشر: حَدِيْثُ سَهلٍ (أنَّهُ كَانَ بينَ جِدارِ المسجدِ ممَّا يَلِي القبلةَ وبَينَ المنبَرِ تَمرُّ المشاةُ).
          7335- الثالث عشر: حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ).
          7336- الرابع عشر: حَدِيْثُ ابن عُمَرَ ☻: (سَابَقَ النَّبِيُّ صلعم بَيْنَ الخَيْلِ)، الحديث.
          7337- الخامس عشر: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عِيسَى _وابْنُ إدْرِيسَ:_وهو عَبْدُ اللهِ بن إدريسَ بن يَزِيد بن عبدِ الرَّحمنِ، أبو محمَّدٍ الأَوْدِيُّ الكوفيُّ أخرج له مُسلمٌ أيضًا _وَابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ:_ وهو يحيى بن عبد الملك بن حُمَيدِ بن أبي غَنِيَّةَ الكُوفيُّ، وأصلُهُ مِن أَصْبَهانَ تَحوَّلُوا عنها حين فَتَحَها أبو موسى، أخرج له مُسلمٌ أيضًا _عَنْ أَبِي حيَّانَ:_واسمه يحيى بن سَعِيدٍ بن حيَّان التَّيْمِيُّ الكُوفيُّ، أخرج له مُسلمٌ أيضًا _عَنْ الشَّعْبِيِّ_وهو أبو عَمْرٍو عامرُ بن شَرَاحِيلَ عن ابن عُمَرَ قال: سمعتُ عَمُر ☺ على مِنْبرِ النَّبِيِّ صلعم.
          7338- السادس عشر: حَدِيْثُ السَّائب بن يَزِيدَ: (سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ☺ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم).
          7339- السابع عشر: حَدِيْثُ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عَن أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ ♦ قَالتْ: (قد كَاَنَ يُوْضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللهِ صلعم هذا المِرْكَنُ فَنَشْرَعُ فِيْهِ جَمِيْعًا).
          المِرْكَنُ: الإِجَانةُ.
          7340- 7341- الثامن عشر: حَدِيْثُ أَنَسٍ ☺ قَالَ: (حَالَفَ النَّبِيِّ صلعم بَيْنَ الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِي دَارِي الَّتِي بِالمَدِيْنَةِ).
          (وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيِمٍ).
          7342- التاسع عشر: حَدِيْثُ بُرَيدٍ عن أبي بُرْدَة قَال: (قَدِمْتُ المَدِيْنَةَ، فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللهِ بِنُ سَلامٍ فَقَالَ لِي: اِنْطَلِقْ إِلَى المَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيْهِ رَسُولُ اللهِ صلعم، وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيْهِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِهِ).
          7343- العشرون: حَدِيْثُ ابن عبَّاسٍ، عن عُمَرَ ☺ أنَّهُ صلعم قَالَ: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي وَهْوَ بِالعَقْيِقِ أَنْ صَلِّ فِي هذا الوَادِي المُبَارَكِ، قُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ).
          وَقَالَ هَارُوْنُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ: حدَّثنا عَلِيٌّ: (عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ).
          7344- الحادي بعد العشرين: حَدِيْثُ ابن عُمَرَ ☻: (وَقَّتَ النَّبِيِّ قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: لأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَذَكَرَ له العِرَاقُ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَؤمَئِذٍ).
          7345- الثاني بعد العشرين: حَدِيْثُ ابن عُمَرَ ☻ أيضًا: (عَن النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ أُرِيَ وَهْوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطَحَاءَ مُبَارَكَةٍ).
          الشرح: ما أجمعَ عليه أهل الحَرَمَين مِن الصَّحابة، ولم يُخَالف صاحبٌ مِن غيرهما فهو إجماعٌ كذا قيَّده ابن التِّين، ثمَّ نقل عن سُحنُون أنَّه إذا خالف ابن عبَّاسٍ ☻ أهل المَدِيْنَةِ لم يَنْعَقِد لهم إجماعٌ قَالَ: وإذا أجمع أهل عصْرٍ على قولٍ حتَّى يَنْقَرِضوا ولم يتقدَّم فيه خِلافٌ فهو إجماعٌ.
          قَالَ: واختُلف إذا كان مِن الصَّحابة اختلافٌ ثمَّ أجمع مَن بعدَهم على أحدِ أقوالهم، هل يكون ذلك إجماعًا؟ والصَّحيح أنَّه ليس بإجماعٍ، واختُلِف في الواحدِ إذا خالفَ الجماعة، هل يؤثِّر في إجماعِهم، وكذلك اثنين وثلاثةٍ مِن العدد الكثير. قَالَ: وقيل: أهل المدينة المقيمينَ بها دونَ الظَّاعنين عنها.
          وهذا بعيدٌ، قد خرج منها وأقام بغيرها حتَّى تُوفِّي عليٌّ وعمَّارٌ والأَشْعَرِيُّ وأبو مَسْعُودِ بن بَدْرٍ وأنسٌ ♥، وَكَاَنَ أكْثَر مقام ابن مَسْعُودٍ العِراق وَكَاَنَ بِها سَعْدٌ وَالمُغِيرة وخَلْقٌ مِن الصَّحابة أكثر مِن مائتي رجلٍ، وخرج مُعَاويةُ ☺ إِلَى الشَّامِ، وأبو عُبَيدة ☺ وأبو الدَّرداء وحُذَيْفة ♥ وكثيرٌ مِن الصَّحابة. وكَاَنَ ابن عبَّاسٍ ☻ ولَّاه عليٌّ ☺ العِراق ثمَّ أقام بالطَّائف حتَّى مات بها أفيُنفى هؤلاء مِن ذلك، إلَّا أنَّ أكثر الصَّحابة كان بِالمَدِيْنَة ألَا تسمع قول ابن عوفٍ لعُمُرُ ☻: أمهِلْ حتِّى تأتِي المَدِيْنَة فتخلُصَ بأصحابِ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          وقَالَ ابن بطَّالٍ: اختلف أهل العِلْم فيما هم فيه أهل المَدِيْنَة حجَّةٌ على غيرهم مِن الأمصار، فكان الأَبْهَرِيُّ يقول: أهل المدينَة حجَّةٌ على غيرهم مِن طريق الاستنباطِ، ثمَّ رجع فَقَالَ: قولهم مِن طريق النَّقْل أوْلَى مِن طريقٍ غيرهم، وهم وغيرهم سواءٌ في الاجتهاد، وهذا قول الشَّافعِيِّ.
          وذهب أبو بكر بن الطَّيِّب إِلَى أنَّ قولهم أولى مِن طريق الاجتهاد والنَّقل جميعًا، وذهب أصحاب أبي حنيفة إِلَى أنَّهم ليسوا حجَّةً على غيرهم لا مِن طريق النَّقل ولا مِن طريق الاجتهاد، واحتجَّ من قَالَ: هم أولى بالاجتهاد من غيرهم؛ لأنَّهم شاهدوا التنزيل وأقاويل رَسُولِ اللهِ صلعم وعرفوا معانيَ خِطَابِه وفحْوَى كَلامِهِ، فلذَلِكَ هم أوْلى مِن غيرهم بالاستنباط.
          واحْتَجَّ أصْحابُنا فَقَالوا: مَن قال هذا القول فقد قال بالتقليد، وقد أُخذ علينا النَّظر في أقاويل الصَّحابة والترجيح في اختلافهم، فإذا قام لنا الدَّليل على أحد القولين وجبَ المصير إليه، وإذا صحَّ هذا بطَلَ التقليد، وإنَّما هُم أوْلى مِن غيرهم مِن طريق النَّقل؛ لصحَّة عَدَالتهم ومُعاينتهم التنزيل وَمُشاهَداتِهم للعمل، فأمَّا الاستنباط فالنَّاس كلُّهم فيه سواءٌ.
          فَصْلٌ: غرضُ البُخَارِيِّ في الباب كما قَالَ المهلَّب: تفضيل المدينة بما خصَّها الله مِن معالِمِ الدِّين، وأنَّها دار الوحي ومَهْبِط الملائكة بالهدى والرَّحْمة، وبُقعةٌ شرَّفها الله تعالى بسُكنى رَسُولِهِ وجعل فيها قبْرَهُ وَمِنْبَرَه وبَيْنَهُما روضَةٌ مِن رياضِ الجنَّة، وجعلها كالكِير تَنْفِي الخَبَثَ وتخلِّص الباقي حتَّى لا يَشُوبهم ميلٌ عن الحقِّ.
          أَلَا ترى قول ابن عوفٍ ☺ لعمر ☺: إنَّها دار الهِجْرة والسُّنَّة، وإنَّ أهلَها أصحاب رَسُولِ اللهِ صلعم الذين خَصَّهُم الله بفهم العِلْم وقوَّةِ التَمْييزِ والمعْرِفَة بِإنزالِ الأمور منازلها.
          فَصْلٌ: وأمَّا حَديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ فإنَّما ذكر وقوعَهُ بين المنبر وحُجْرة عائِشَة ♦ اللَّذَين هما مِن معالم الدِّين وروضةٌ مِن رياضِ الجنَّة، إعلامًا منْهُ لِصبره على الجُوْعِ في طلب العِلْم، / ولزوم الشارع حتَّى حفظَ مِن العِلْم، ما كان حجَّةً على الآفاق ببركة صبرِهِ على المدينة.
          فَصْلٌ: والوَعْك في حَديث جابرٍ ☺ الحمَّى، قاله ابن فارسٍ قال: ويُقال: مَغَثُ المرَضِ، وفِي «الصِّحاح»: الوَعْك مَغْثُ الحمَّى.
          وَقَوْلُهُ: (أَقِلْنِي بَيْعَتِي) كأنَّه كَاَنَ بُويع عَلَى الهجرة وَالإقَامة بالمَدِيْنَة، فخُرُوجه مِن المَدِيْنَة شبيهٌ بالارتداد، وكَانَت الهِجْرة فرضًا عَلَى كُلِّ مَن أسْلم إِلَى أَنْ فُتحت مكَّةُ، وقيل: كَانَت عَلَى أهل الحاضرَة دون البَادية، وقيل: كَانَت واجبةً عَلَى كلِّ أهْلٍ.
          وَالكيرُ: هنا الفُرن الذي يُحمى ليخْرُج خَبث الحديد؛ قاله القزَّاز. قال: وفيه لُغتان: كِيرٌ وكُورٌ، وفي «الصِّحاح» قال أبو عَمْرٍو: الكير: كِيرُ الحدَّاد، وهو زِقٌّ أَوْ جِلْدٌ ذو حافَّاتٍ، وَأمَّا المبنيُّ مِن الطِّين فهو الكُورُ. وَالذي يظهر مِن الحَدِيْث أنَّه المبنيُّ لأنَّه الذي يُخْرج الخَبَث، وقال أبو عبد الملك: يعني نار الكِير، يريد: الذي يُخرج الشِّرار وَيحبس الخِيَار، قال: (وَيَنْصَعُ طِيبُهَا) معناه: يفوحُ وَيَنتشِرُ، قال: ويُروى ((ويَنْضَخُ)) _بالضاد والخاء المعجمتين_ أَيْ: يكون طِيبها عليها كالخَلُوق، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:96]، أَيْ: تَنْضَخانِ مِن الماء، وهو أكثر مِن النَّضْح، قال: وروايةٌ ثالثةٌ _بالحاء المهملة_ وهو ما زُقَّ منه، يُقال: نَضَحت عليه الماء، وقد أتَى: ((تَنْضَح)) بمثنَّاةٍ فوق، وَ(طَيبَهَا): بفتح الطَّاء والباء، وقال أبو الحَسَن: ((تَنْضَحُ)) بالتاء، والذي رُوِّي لنا مِن «الموطَّأ» ((يَنْصَع)) بالياء، و(طَيِّبُهَا): بضمِّ الباء، وكسر الياء، وكذا فسَّره الجَوْهَرِيُّ، وقد سلف كلُّ ذَلِكَ وَأعدناه لبُعْدِهِ [خ¦1883].
          فَصْلٌ: وأمَّا قول ابن عبَّاسٍ ☻: (شَهِدْتَ العِيدَ؟ وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ) فمعناه: أنَّ صغيرَ أهل المَدِيْنَة وكبيرَهم ونساءَهم وخدَمهم ضبطوا العِلم والسُّنن معاينةً منهم في مواطن العمل مِن شارعها المبيِّن عن الله، وليس لغيرهم هذِه المنزلةُ.
          وأمَّا إتيانه ◙ قُبَاءً فمعناه معاينته ماشيًا وراكبًا في قَصْد مسجد قُبَاءٍ وهو مَعْلمٌ مِن معالم الفضل ومشهدٌ مِن مشاهده، وليس ذلك لغير المدينة فكان يعمُّ أهل المدينة ومَن حولها بالوصول إليهم لينالوا بركتَهُ.
          فَصْلٌ: وأمَّا حَديث عائِشَة ♦ وأَمرُها أَنْ تُدفن مع صواحِبها كراهة أَنْ تُزكَّى بِالدَّفن فِي بَيتها مَعَ رَسُوْل اللهِ صلعم وصاحِبَيْه؛ لِئلَّا يَظنُّ أحدٌ أنَّها أفضل الصَّحابة بعْد رَسُوْل اللهِ صلعم وصاحبيه، أَلَا تسمع قول مالكٍ للرَّشيد حينَ سألَهُ عن منزلة أبي بكْرٍ وعُمَر مِن رَسُوْل اللهِ صلعم فِي حياتِه، فَقَالَ له: منزلتهما منه في حياتِه كمنزلتهما منه بعد مماتهِ. فزكَّاها بالقُرب منه فِي البقْعَة المُبَاركة والتربة الَّتي خلَق اللهُ مِنه خير البَريَّة وأعادَهَ فيها بعد ممَاتِه، فقام لمالكٍ الدَّليل مِن دفنهما معه عَلَى أنَّهُما أفضلُ أصْحابِه لاختصاصهما بذَلِكَ.
          فَصْل: واحتجَّ الأَبْهَرِيُّ عَلَى أَنَّ المَدِيْنَة أفضلُ مِن مكَّةَ بأنَّه ◙ مخلوقٌ مِن تربة المَدِيْنَة وهو أفضلُ البشر فكَانَت تربته أفضلَ الترب.
          فَصْلٌ: وفيه: تواضُع عائِشَة ♦ أيضًا بأنْ لا ترى نفسها أهْلًا للدَّفن مَعَ رَسُوْل اللهِ صلعم، وإيثارها بالمكان لعُمَر لا ينافي هذَا، وقد تكون نَوَتْ أَنْ تُقبر بالمكان الذي قُبر به مْنَ وراء أبيها ويقرب برَسُوْل اللهِ صلعم وبقي مكانٌ آخرُ، فَنَظَرت فِي أمرها وقالت: لا أُزَكَّى به، وقولها: (وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: لاَ وَاللهِ، لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا) أَيْ: لا آثرتُ أحدًا بإقبارِهِ معهم، قال ابن التِّين: كذا وقعَ وصوابه:<لا أُوثِرُ أَحَدًا> ولم يَظهر لي وجهُ صوابِهِ.
          فَصْلٌ: (الرَّعَاعُ) بفتح الراء، وهم الأحداث الطَّغَام؛ قاله الجَوْهَرِيُّ وقد أسلفناه قريبًا بزيادةٍ.
          وَقَوْلُهُ: (فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ) أَيْ: تُتأوَّل عَلَى خِلاف وجهها.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا تفسير المِشق وأنَّه الصِّبغ، وَ(بَخْ بَخْ) بإسكان الخاء، فإن وَصَلْت خَفَّضْتَ ونوَّنتَ، فقلتَ: بَخٍ بَخٍ. وربَّما شدَّدت كالاسم.
          قال الجَوْهَرِيُّ: وهي كلمةٌ تُقال عند المدْح والرِّضى بالشيء، وقد تكون للمبالغة، عبارة ابن بطَّالٍ: هي كلمةٌ تُقال عند الإعجاب بالتخفيف والتثقيل.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ فِي حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ فِي العيد (فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ) هو ما عليه جماعةُ العلماء أَنَّ الخُطْبَة بعدَها، واختلف فيمن أحْدَثَها قبلُ؟ فقيل: مروانُ، وهو ما سبق، وقال مَالِكٌ في «مبسوطه»: عُثْمانُ، وفَعَله ليُدْرِك النَّاسُ الصَّلاة. ورُوي عن يُوسُفَ بن عَبْدُ اللهِ بن سَلَامٍ: إنَّ أوَّل مَن فعلَهُ عُمَر بن الخطَّاب ☺ لمَّا رأَى النَّاس يُنقصون إذَا صَلَّى فَحَبَسهم للخُطْبَة.
          فَصْلٌ: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلاَ إِقَامَةً) وعليه جماعةُ الفقهاء والصَّدر الأوَّل، واختُلف فيمن أحدث ذَلِكَ، فقال أبُو قِلابة: عَبْدُ اللهِ بن الزُّبير، وقال ابن المسيَّب: مُعَاويةُ، وقال ابن حَبِيبٍ: هِشَامٌ، وقال القَنَازِعِيُّ: زِيَادٌ، وقال الدَّاودِيُّ: مروانُ.
          وَقَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِلاَلًا فَأَتَاهُنَّ) في أكثر الأحاديث أنَّه ◙ أتاهنَّ ومعه بِلَالٌ.
          فَصْلٌ: وأمَّا حَديث أَنسٍ ☺: (أنَّه ◙ كَاَنَ يُصَلِّي العَصرَ فَيَأتِي العَوَالي والشَّمسُ مُرتفعةٌ) فمعناه: أَنَّ بين العَوَالي وبين مسْجد المَدِيْنَة للماشي مَعْلَمٌ مِن مَعَالم ما بين الصَّلاتين يستغني الماشي فيها يوم الغيم عن معرفة الشَّمس، وذلكَ معدومٌ فِي سائر الأرض، فإذا كَانَت مقاديرُ الزَّمان متعيِّنةً بالمَدِيْنَة لمكانٍ بادٍ للعَيَان يَنقلهُ العلماء إِلَى أهل الإيمان ليمتثلوه في أقاصي البُلدان، فكيف يُساويهم أهل بلدةٍ غيرُها؟ وكذلك دُعاؤه لهم بالبركة في مِكْيَالهم خصَّهم مِن بركةِ دَعوته ما اضطرَّ أهل الآفاق إِلَى القصد إِلَى المَدِيْنَة في ذَلِكَ المعيار المدعوِّ له بالبركة؛ ليُمسكوه وجعلوه سُنَّةً في مَعَايشهم وهو ما فَرَضَ الله عليهم لعيالهم وظَهَرت البركة لأهل بلدٍ في ذَلِكَ المكْيَال.
          ومعنى: (اللَّهُمَّ بارِك لَهُم فِي مِكيَالِهِم وَصَاعِهِم وَمُدِّهم) ما يُكالُ بها وأضمر ذَلِكَ لأنَّه مفهومُ الخِطاب مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] وكَاَنَ مدُّهم صغيرًا / لقلَّة الطَّعام عندهم، فدعا لهم ليُبَارك لهم فيه.
          فَصْل: (وبُعْدُ العَوَالي أربعةُ أميالٍ أَوْ ثلاثةٌ) كما ذكر البُخَارِيُّ عن يُونُس ولعلَّ هذَا كَاَنَ في نهار الصَّيف، وفيه دليلٌ عَلَى أبي حنيفةَ القائل: إنَّ العصر وقتُهُ إذَا صار ظلُّ كلُّ شيءٍ مِثْلَيه؛ لأنَّه يبعدُ أَنْ يصلِّيَ العصر ثمَّ يمشي أربعةَ أميالٍ والشَّمس مرتفعةٌ بعد أَنْ صار الظلُّ مِثلَيه بعد ظلِّ الزوال.
          فَصْل: وأمَّا رجمهُ لليهوديَّين عند موضع الجَنائِز فإنَّ الموضع قد صار عَلَمًا لإقامة الحُدُود وللصَّلاة عَلَى الجنائِز خارج المسْجد وبه قال مالكٌ فهْمًا من الحَدِيْث.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (هذَا جَبَلُ يُحبُّنَا وَ نُحِبُّهُ) لا يبعُدُ أنَّه حقيقةٌ كحنينِ الجِذْع آيةً لنبوَّته، وقيل: مجازٌ. أَيْ: يُحِبُّنا أهلُهُ مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82].
          فَصْلٌ: وَأمَّا مقدار ممرِّ الشاةِ بين الجدار والمِنبَر فذَلِكَ مَعْلَمٌ للنَّاس وسُنَّةٌ ممتثلةٌ في موضع المنابِر؛ ليدخل إليها مِن ذَلِكَ الموْضع فينْفض مِن الغُبَر ويُنظف.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ) يجوز أَنْ تكون حقيقةً وأنَّها تُنقل إِلَى الجنَّة أَوْ العمل فيها موْصِلٌ إِلَى الجَنَّة، واحتجَّ به في «المعونة» عَلَى تفضيل المَدِيْنَة؛ لأنَّه قد عَلِم أنَّه إِنَّمَا خصَّ ذَلِكَ الموضع منْها بفضيلةٍ عَلَى نفْسِها وَكَاَنَ بأن يَدلُّ عَلَى فضلها على ما سواها أوْلَى، والمراد منه القبر كما في الرواية الأخرى أَوْ الحُجْرة التي يَسكنها لأنَّها قبْرهُ.
          فَصْلٌ: وَأمَّا ذِكْر ما بين الحَفْيَاءِ وثَنِيَّةِ الوَدَاعِ فمسافةُ ذَلِكَ سنَّةٌ ممتثلةٌ ميدانًا لخيل المضمَّرةِ.
          وَقَوْلُهُ: (ضُمِّرَتْ مِنْهَا) يُقال: ضَمَُر القوم بفتح الميم وبضمِّها لغةً، وأَضْمَرْتُهُ وضَمَّرْتُهُ، فيصحُّ أَنْ تُقرأ ضمرتُ بفتح الضاد والميم أَوْ فتحها وضمِّ الميم أَوْ ضمِّ الضاد وتشديد الميم عَلَى ما لم يُسمَّ فاعله، قال ابن التِّين: وهو الذي قرأنَا.
          فَصْل: و(المِركَنُ) _بكسر الميم_ شِبه تَوْرٍ مِن خَزَفٍ يُستعمل للماء، قاله ابن بطَّالٍ، وعبارة الأَصْمَعِيِّ فيما حكاه ابن التِّين أنَّه الإِجَّانةُ التي تُغسل فيها الثِّياب.
          قَوْلُهُ: (فَيَشْرَعُ فِيْهَا جَمِيْعًا) يُقال: شَرَعَتِ الدَّوابُّ في الماء أَيْ: دَخَلَت فيهِ.
          فَصْلٌ: وَأمَّا خُطبة عُمَر وعُثْمانَ ☻ عَلَى منْبَر رَسُوْل اللهِ صلعم فإنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ ممتثلةٌ، وأنَّ الخطبة تكون عَلَى المنابِرِ لتوصيلِ الموعظةِ إِلَى أسماعِ النَّاس إذَا أشْرَفَ عليهم، وكذلِكَ مِركن عائِشَة ♦ التي كَانَت تشرعُ فيه مَعَ رَسُوْل اللهِ صلعم للغُسل، ومِقْدَارُ ما يكفيهما مِن الماء ولا يوجد ذَلِكَ المِرْكَن إلَّا بالمَدِيْنَة، وكذلك موضعُ مُحَالفتِهِ ◙ بين قُرَيشٍ والأنصار بالمدينة معروفٌ يثبتُ ببقائه جواز المحالفة في الإسلام عَلَى أمر الدِّين والتعاضُد فيه عَلَى المخالفِين، وقد سلف في كتاب الأدب ما يجوز مِن الحِلْف في الإسلام وما لا يجوز في باب: الإخاء والحِلْف؛ فراجعه منه [خ¦6083].
          وكذلك قدحه ◙ ومكان صلاته لا يوجد ذلك بغير المدينة وكذلك وادي العَقِيق المبارك بوحي الله إِلَى رَسُوْلِه وأَنَّ اللهَ أنْزَلَ فيه بركةَ إحلال الاعتمار في أشهر الحجِّ وَكَاَنَ محرَّمًا قبل ذَلِكَ عَلَى الأمم، وأمرَه بالصَّلاة فيه لبركته وليس ذَلِكَ مأمورًا به إلَّا في هذَا الوادي الذي يَقصده أهل الآفاق للصلاة فيه والتَّبرُّك به، وكذلك توقيتُهُ المواقيتَ لأهل الآفاق معالمَ للحجِّ والعُمْرة ترفُّقًا مِن اللهِ بعبادِه وتَيْسيرًا عليهم مشقَّة الإحرامِ مِن كُلِّ فجٍّ عميقٍ، فهذِه بركةٌ مِن الله في الحِجَاز موقوفةٌ للعِباد ليس في غيره مِن البلاد.
          وفي جَعلِ الله بَطْحَاءَ العَقِيق المباركة مهلًا لرَسُوْلِهِ وَلأهلِ المَدِيْنَة وهي آخرُ جزائر المَدِيْنَة عَلَى رأس عشرة أيَّامٍ مِن مكَّةَ، وغيرها مِن المواقيت عَلَى رأس ثلاثةِ أيَّامٍ مِن مكَّةَ فضلٌ كبيرٌ لأهل المَدِيْنَة بحمله ╡ عليهم مِن مشقَّةِ الإحرام أكثرَ ما حملَ عَلَى غيرهم وَذَلِكَ لعلمهِ بِصبْرِهم عَلَى العِبَادة واحتِسَابِهم لتحمُّلها، وكذلك صبْرهم عَلَى لأواء المَدِيْنَة وشِدَّتِها حِرصًا على البَقاء في منزل الوحي ومَنْبِتِ الدِّين؛ ليكون النَّاس في موازينهم إِلَى يَوْم القِيَامَةِ كما صاروا إِلَى موازينهم بإدخالهم أوَّلًا في الدِّين؛ لِمَا وُضع فيهم أوَّلًا مِن القوَّة والشجاعة التي تَعَاطوا بها مفارقة أهل الدُّنيا وضمِنوا عَلَى أنفُسهم نُصْرة نبِيِّ الهُدى فَوَفى الله بِضَمانهم ونَصْرهم عَلَى أعدائِهم، وتمَّت كلمةُ اللهِ ودِينه بهم فكانوا أفضل النَّاس لقُربه منهم وعِلمه بأحوالهِ وأحكامهِ وآدابهِ وسِيرهِ، ووجب لمن كَاَنَ عَلَى مَذْاهب أهل المَدِيْنَة حَيْثُ كَاَنَ مِن الأرض نصيبٌ وافرٌ مِن بركة المَدِيْنَة، واستحقُّوا أَنْ يكونوا مِن أهلها؛ لاتِّباعهم سُننَ رَسُوْلِهِ الثَّابتة عندهم مِن علمائِها والمتَّبعين لهم بإحسَانٍ قال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ♥ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] والمرء مَعَ من أَحبَّ، ووجب أَنْ يكون لأهل مكَّة مِن ذَلِكَ نصيبٌ؛ لأنَّ عندهم معالمَ فريْضةِ الحجِّ كلِّها، وقد عاينوا مِن صلاتهِ وأقواله في المرَّات التي دَخَلها ما صاروا به عالِمين ولهم مِن بركة ذَلِكَ أوفَرُ نصيبٍ وَحظٌّ جزيلٌ.
          فَصْلٌ: قَرْنٌ بإسكان الراء، وضبطهُ ابن التِّين بالفتح وعن بعضهم إذَا أُفردت فُتحت وَإذَا أُضيفَتْ سُكِّنت، قال: وقَرْنٌ مكانٌ أَوْ جبلٌ كَانَت فيه وقعةٌ لِغَطَفَانَ عَلَى بني عامِرٍ، يُقال له: يومَ قَرْنٍ، ويَلَمْلَم اسمُ جبلٍ.
          وسُمِّيت الجُحْفَة مِن قولهم: أَجْحَفَهم الدَّهر. أَيْ: استأصلَهم وَ ذَلِكَ أنَّ العَمَاليقَ أخرجوا أخوة عادٍ مِن يَثْرِبَ، فنزلوا مَهْيَعةً فجاء سيلٌ فَأَجْحَفَهم فسُمِّيت الجُحْفَة بذَلِكَ.
          وَقَوْلُهُ: (وَذُكِرَ العِرَاقُ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ) يريدُ بأنَّها لم تكن فُتحت، وَفي حَديث جابرٍ ☺ ((ومُهَلُّ أهل العِراق مِن ذات عِرْقٍ))، وفي حَديث عائِشَة ♦ كذَلِك.
          وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ) هو الموضعُ الذي يُعرَّس فيه، يُقال له: مُعَرَّسٌ وَمُعْرَسٌ، وَالتَّعريس / نزولُ القوم في السَّفر في آخر اللَّيل يَقِفون وقفةً للاستراحة ثمَّ يَرتحلون، وَأعرسوا لغةٌ فيه قليلةٌ.